السَفيرُ القُبرصيُّ الجديدُ في زيارةِ دارِ المطرانيّة
سبتمبر 18, 2024تأثيرُ الكحولِ والمخدِّراتِ والسّمومِ على الدّماغ
سبتمبر 18, 2024إن الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، ابن الله وكلمته، الذي خلق العالم كلّه بالحكمة والمحبة ومسرَّة الآب والعمل الواحد مع الروح القدس. خلق العالم كلّه، العقلي (غير المحسوس) والمادي المحسوس. لقد خُلق العالم “من العدم” وليس من الصفر.
في البداية خُلق العالم العقلي، أي القوى الملائكية، ثم خُلق العالم المحسوس، أي الكون مع السماء والأرض والبحر والنباتات والحيوانات. ومن ثم أتى الإنسان في آخر سلسلة الخليقة، كتاج لها. لقد تم خلق العالم كلّه بشكل (أمْر)، بينما أتى الإنسان إلى الوجود من خلال خطة الله الكاملة ورعايته الخاصة به. فالإنسان ذو طبيعة مزدوجة، فهو يتكون من جسد وروح، وهو الكائن الوحيد الذي يشارك في العالم العقلي اللامنظور والعالم المادي المحسوس، ويحوي في داخله جميع عناصر العالم. ولكن هذا كلّه لا يمثِّل قيمته الحقيقية.
وحقيقة أن الإنسان مخلوق آخِر الكل تكشف عن مكانته المَلَكية. إذ أن الله يُهيئ أولاً قصر الإنسان (العالم) ومن ثم يضعه فيه ليمارس سلطته فيه ويتمتع به. إن الصفة المَلَكية للإنسان تظهر في جميع عناصره، حتى في بنيته الجسدية. فالإنسان ليس قويا جسديا، مثل بقية الحيوانات، وهذا بالضبط ما يجعله بحاجة إلى السيطرة على هذه الحيوانات من أجل الاستفادة منها. علاوة على ذلك، فهو الوحيد الذي يتمتع بقامة منتصبة وأذرع ممتدة لتخدم قوته الخاصة، ألا وهي الكلام والعقل.
الإنسان هو ملك “على صورة” الملك الأعظم (الله)، الذي يملك على الجميع. هذه هي حقيقة قيمة الإنسان، فهو الكائن الوحيد المخلوق “على صورة” الله و”مثاله”. وهذا يعني أنه في نفس الوقت الذي يشبه فيه عناصر العالم، فإنه يشبه الله أيضًا من حيث صفاته الإلهية. وهذه الصفات مثل: الحرية والإبداع الخلّاق والسيادة وبالطبع العقلانية التي تقوم عليها. وهكذا يستطيع الإنسان أن يتمتع بالخيرات الأرضية والإلهية.
بدون وجود الإنسان، لا يكون للعالم أي معنى، إذ تبقى خيرات الله دون أن يتمتع بها أحد. إن الإنسان بحد ذاته هو هدف الخَلق. لقد خُلِقَ الإنسان على صورة الله وهذا يعني أن الإنسان بكامله، وليس جزءً منه، قد خُلِقَ على صورة الله، أي أن هذه الصورة موجودة في الإنسان بكامله “نفساً وجسداً” كوِحدة واحدة. إن صورة الله في الإنسان، باعتبارها القرابة الإلهية للإنسان، هي سمة مشتركة بين جميع البشر.
وهذه الصورة تظل باقية (بحالة استاتيكية) في الإنسان ولا يمكن أن تزول كونها داخلة في تكوينه وجوهره، ولكن هذه الصورة الإلهية في الإنسان لها قوّة وطابع ديناميكي، إذ تعتمد على الطريقة التي يعيش بها الإنسان حياته الشخصية، فإن قوّتها فيه إما أن تنقص أو تزيد، وذلك من خلال درجة التنقية. وعندما تزداد تنقية الإنسان لنفسه، أي تزداد نقاوة “على صورة الله” فيه، فإنه أيضًا يتجه نحو “مثال الله”. وبعبارة أخرى، فإن الشبه بالله يشكل الضمير الذي يقود الإنسان إلى المسار الواعي، نحو تحقيق هذه الصورة التي فيه، وحينها يشعر بقوة فاعلية صورة الله التي به.
في خلق الله للإنسان، حقّق الله بقدرته الإلهية عملين متزامنين:
من خلال الفعل الأول لقدرته: ألا وهو الخلق “على شبه” الله و”على مثاله”، يُظهِر الله أصل الإنسان وجذره الأزلي، ووجهته الحقيقية التي هي “الشركة مع الله”.
ومن خلال الفعل الثاني لقدرته: الذي هو خَلق الإنسان ذكراً وأنثى “حيث خَلق المرأة من جنبه”، وهذا يُظهِر تشابُه الإنسان مع سائر الحيوانات وأسطوله الأرضي الملموس.
إن الفِعل الثاني لقدرة الله، خَلْق الإنسان ذكراً وأنثى، جاء بحسب عِلمه السابق عن سقوط الإنسان الأول، كي يتناسل الإنسان بعد السقوط لئلا يتعرض الجنس البشري للانقراض بسبب الموت الذي صار له كنتيجة حتمية للسقوط، بل يتكاثر. وبهذه القدرة المزدوجة في خلق الإنسان، والتي تظهر الوحدة التي تميز البشرية جمعاء، تظهر أيضًا الرؤية الإلهية المستقبلية تجاه البشر وحقيقة عنايته بهم. وتُظهر أنه حتى وإن لم يحدث السقوط، كان أيضاً هدف الله هو تكاثر البشر.
في الفردوس، قبل السقوط، كان الإنسان يحيا بدون فساد، ولم يكن هناك انحلال وموت، وبالتالي لم يكن هناك شرور أخرى تنشأ عنهما، ولا أية عاقبة سيئة مثل المرض أو العذاب أو عدم الاستقرار ولا جميع أنواع المعاناة. لقد كان الإنسان قبل السقوط يشترك في حياة الله بكل كيانه، حتى من خلال عملية الأكل والشرب. وهكذا عاش بطريقة ملائكية، ومتمتعاً بجميع الخيرات الإلهية.
في الفردوس، كان هناك شجرة الحياة من جهة، وشجرة معرفة الخير والشر من جهة أخرى، وهاتان ترمزان إلى الخير والشر. شجرة معرفة الخير والشر تظهر من اسمها بأنها ترمز إلى الشر، وتكشف أيضًا عن طبيعة الشرير الخادعة. لقد حاول الشيطان، الذي هو بنفسه يفعل الشر، أن يخدع الإنسان فيما يتعلق بالصلاح، حتى يقوده إلى الهلاك. وبالتالي تتلخَّص الخطيئة الجدِّية في أن الإنسان أنكر ونسي خيرات الله عليه واتجه نحو التمتع المادي فالتصق بالملذات المادية البحتة ونسي الله المحسن إليه مغمضاً عينيه عن ينبوع كل الخير.
بالسقوط لبس الإنسان جلودًا، أي دخل الانحلال والموت وكل ما معه إلى حياته. وأيضًا بالسقوط تشوهت الصورة الإلهية في الإنسان فأظلمت نعمة الخلق بداخله “على صورة الله”، وأضاع طريق الوصول إلى “مثال الله”.
2. لقد أشفق الله على خليقته، وكونه كلّي الحكمة كانت لديه الخطة المناسبة لإنقاذه كي يخلّصه. وكانت هذه الخطة هي تجسُّد كلمة الله. لقد صار ابن الله وكلمته جسدًا في الوقت المناسب، عندما كان الشر يتفاقم في البشرية. إن التجسد الإلهي الذي يظهر المحبة الإلهية اللامتناهية، في شكل “أفرغ ذاته” وتواضع، يشكل السر الأعظم، إذ به انحدر الله من علوه إلى ذروة الحالة الإنسانية المتواضعة.
لقد كان التجسّد هو الطريق الوحيد لخلاص الإنسان، كما أنه الطريق الوحيد لإيصال الإنسان إلى التأله والكمال. لقد كان عمل تجسد كلمة الله هو الوحيد الذي وحّد كل الفضائل السامية، أي الصلاح والعدل والحكمة والقوة. إن الله الكلمة (اللوغوس) بتجسده، أي أن المسيح بتجسّده لم يقدم للإنسان الفداء من الشرور التي تحيط به من تحلل وفساد الموت فحسب، بل يمنحه أيضًا حياة جديدة، أي أدخله في بحر من الإمكانيات الجديدة التي تقوده إلى التأله. لذلك، الله يصير إنسانًا بالأساس، ليجعل الإنسان إلهًا.
إن حقيقة أن المسيح هو بالفعل الله الإنسان، وهذا يمكن رؤيته من خلال الأحداث العجائبية المتعددة التي رافقت حياته، من البداية إلى النهاية. إن ميلاد المسيح “العذراوي” هو أعظم دليل على شخصه الإلهي الإنساني. فالمسيح إنسان لأنه ولد كإنسان، وهو الله لأنه ولد بطريقة خاصة، بدون الجماع الزوجي أو الزراعة الزوجية، وإنما بقوة الروح القدس من مريم العذراء.
3. بتجسد الله الكلمة تم اتحاد الطبيعة الإلهية بكل خصائص الطبيعة الإنسانية. ولم يتم استبعاد أي جزء من الطبيعة البشرية من هذا الاتحاد، لأنه إذا بقي أي شيء غير متّحد به فسيظل بالضرورة غير خاضع للشفاء. هذا الاتحاد للطبيعتين يشكل محور الخطة الخلاصية الكاملة للتدبير الإلهي.
وبالتالي فإن جميع ما حدث لطبيعة المسيح الإنسانية انتقل إلى كل إنسان، بسبب وحدة الطبيعة البشرية. وهكذا فإن انتصار المسيح على الموت بالصليب وقيامته يشكل أساس خلاص وقيامة الجميع. إن قيامة المسيح مهمة جداً، ليس فقط لأنها تكشف عن ألوهيته، ولكن أيضًا لأنها الوسيلة لتوصيل الخلاص الذي يأتي للناس من خلال موته وقيامته. إن موت المسيح يشكل ذبيحة مجانية مقدمة لخلاص الجميع، مما يؤدي إلى تكفير الخطايا. المسيح، حين بسط يديه على الصليب، وّحد العالم كله. والمسيح يخلِّص كل من يتَّحد به ويشاركه في حياته ومجده.
الكنيسة هي جسد المسيح، وبالتالي فهي أساس العالم أجمع. لقد صنع المسيح جسده من الطينة البشرية بكاملها (نفساً وجسداً) وجعلها جسده لكي يخلِّص الإنسان ويجدده، وكون الإنسان هو العالَم الصغير، فإنه يجذب معه العالم الكبير كلّه في هذا التجديد. وبما أن الكنيسة هي جزء لا يتجزأ من سر التقوى، فهي تواصل عمل المسيح. وبالتالي خارج الكنيسة، لا يوجد أية علاقة مع المسيح ولا يمكن أن يتم الخلاص.
إن الكنيسة متحدة بأسرارها، وحيث تتم هذه الأسراس هناك تكون الكنيسة. إن الله حاضر في كل سر، وهكذا فإن الأسرار هي القنوات التي من خلالها تنتشر الحياة الإلهية بين البشر:
إن سر المعمودية المقدَّس يشكِّل الولادة الروحية للإنسان، أي دخوله إلى الحياة الكنائسية الجديدة في المسيح. إن تغطيس الإنسان في الماء ثلاث مرات أثناء المعمودية، يتشابه، بحسب المقاييس البشرية، مع نعمة قيامة المسيح في اليوم الثالث. إن نعمة المعمودية تطهِّر الطبيعة البشرية وتشكل ختم الخلاص للحياة الأبدية.
والسر العظيم (الإفخارستيا) الذي هو سر الشكر الإلهي، قد تأسس في العشاء الأخير. في سر الشكر الإلهي لا يتم توزيع جسد ودم المسيح الحقيقي الذي تحوَّل من الخبز والخمر بشكل الصدفة، إذ يحضر المسيح في الخبز والخمر فيقدسهما نتيجة دخولهما إلى جسده الإلهي، فيتم تحويلهما بشكل غير مرئي إلى الجسد الكريم والدم المحيي للرب يسوع المسيح بفعل القدرة الإلهية، ويتم توزيعهما بشكل كامل وغير منقوص للجميع، لأن المسيح قد ضحى بنفسه وقدّم ذاته ذبيحة من أجل البشرية جمعاء فرداً فرداً، وهو موجود باستمرار في العالم ليعطي نعمته المنقِذة والمخلِّصة. إن جسد ودم المسيح يشكلان الترياق ضد الموت ودواء الخلود.
إن الخلاص الذي يقدمه المسيح، بنعمة الأسرار المقدسة، لا يتحقق بطريقة سحرية وتلقائية، وإنما فقط من خلال مشاركة العمل الإنساني في هذا الهدف، أي من خلال نضاله للعيش وفقًا لتعاليمه (الجهاد الروحي)، ومن خلال ممارسة الفضائل.
لقد خلق الله الإنسان حرّاً، حتى يكون له أيضًا نصيب ولو بسيط في عمل خلاصه، وبالتالي يكون سعيدًا وفرِحاً بهذا العمل. إن حصّة الإنسان في العمل الخلاصي تعتمد على الإيمان المستقيم والحياة المستقيمة أيضاً، إذ عليه أن يؤمن ويحب الإله الواحد والحقيقي الثالوث وأن يظهر ذلك عملياً من خلال حياته الكنسية بشكل عملي، من خلال إظهار المحبة والغفران للآخرين، ومن خلال جهاده الروحي و بالصوم والصلاة ودراسة الكتاب المقدس وحياة القديسين.
وبدون هذه الوسائل، أي بدون ابتعاده عن الشر وبذل الجهد لتطهير نفسه، اللذين يكشفان عن إرادته ونيّته الحقيقية لرغبته في دخول المسيح إلى حياته، لا يشترك الإنسان بشكل صحيح في هذه الأسرار، وبالتالي لا ينتفع من اشتراكه بها.
في كل حالة، يحتاج الإنسان إلى أن يربط بين جهاده الروحي وطلب رحمة الله، لأن داود النبي يقول في المزامير: “إِنْ لَمْ يَبْنِ الرَّبُّ الْبَيْتَ، فَبَاطِلًا يَتْعَبُ الْبَنَّاؤُونَ. إِنْ لَمْ يَحْفَظِ الرَّبُّ الْمَدِينَةَ، فَبَاطِلًا يَسْهَرُ الْحَارِسُ.” (مز 127: 1).
ترجمة: قدس الأيكونومس الدكتور إبراهيم دبّور