
أحد الفصح المجيد
أبريل 20, 2025
إثنينُ الباعوثِ المقدّس
أبريل 21, 2025 ليس من الغلو القول إن قيامة المسيح من بين الأموات في اليوم الثالث هي محور الحياة المسيحية كلها، فهي محور الكرازة الرسولية والعبادة ومنطلق الحياة المسيحية الفردية والجماعية، إن الكنيسة منذ نشأتها لا ترى في قيامة المسيح حدثا تاريخيا فحسب، بل تراه ينبوعا حيّاً متدفقاً بالحياة الجديدة التي تملأ الكنيسة والوجود كله. قيامة المسيح تعني الانتصار النهائي على الموت والشر والفساد، فهي ليست مجرد عودة من الموت إلى الحياة بل هي عبور مظفّر تجاه الحياة الجديدة التي لا يغلبها موت، هذا هو الفصح المُرتجى الذي تنبّأ عنه أنبياء العهد القديم وحقّقه الرب يسوع بصلبه ودفنه وقيامته المجيدة.
في قيامة المسيح كما في ميلاده، لم يترك الله للبشر أن يشكّوا أو يتساءلوا في حقيقة الأمر، بل كان الإعلان الإلهي هو الأساس والمنطلق، ويظهر ذلك جلياً حين أرسل الرب ملاكه إلى مريم العذراء والرعاة ليعلن تجسّده الإلهي، وفي القيامة ظهر ملاك الرب أيضا لحاملات الطيب قائلا لماذا تطلبن الحي بين الأموات ؟ليس هو هههنا لكنه قد قام لوقا 24: 5، ففي الحالتين يظهر التدخُّل الإلهي المباشر بواسطة الملائكة، ففي الميلاد المجيد يعلن الله مسرته بالتجسّد الإلهي وفي القيامة يعلن تحقيق مقاصده الخلاصية من هذا التجسد، وحتى تصبح قيامة المسيح من بين الأموات مختبَرة ومعاينة، فإن الاناجيل تتحدث صراحة عن ظهور الرب للنسوة الحاملات الطيب ولمريم المجدلية ولرسله الأطهار منفردين ومجتمعين، فقد جاء في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس سنة 53 م: فإنني سلّمت إليكم ،أولا وقبل كل شيء، ما استلمته أنا أيضا : أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنه دفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب، وأنه ظهر لصفا ثم للإثني عشر وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ، أكثرهم باق إلى الآن، لكن بعضهم رقدوا، وبعد ذلك ظهر ليعقوب، ثم للرسل جميعاً، وآخر الكل، كأنه للسقط، ظهر لي أنا. ا كور 15: 3-8.
يعتبر هذا النص الكتابي أقدم شهادة تاريخية مكتوبة عن صلب المسيح وقيامته المجيدة بحيث لا يرقى الشك إليها سيما وأن الرسالة كتبت بعد عشرين سنة فقط من الحدث الذي شاهده الرسل والشهود الأوائل واختبروه في صميم حياتهم، وبسبب يقين الرسل الراسخ بقيامة المسيح وانتصاره على الموت، فقد تولّدت لديهم الشجاعة غير المتزعزة للإقدام على موت الاستشهاد في سبيل الإيمان والبشارة المسيحية، وفي استشهاد أحد عشر رسولا يكمن الدليل القاطع والبرهان الساطع على صدق تعليمهم وكرازتهم ، وعلى نهج الرسل الأطهار، قدّمت الكنيسة جحافل من الشهداء الذين ألهمتم قيامة المسيح أن الموت لا سلطانَ له على الذين آمنوا بالمسيح مُخلِّصاً وإلهاً وغالباً للموت.
مثلما تشكّل قيامة المسيح محور البشارة المسيحية، فإنها تعتبر أساس الليترجيا الأرثوذكسية، ففي طقس عيد الفصح المجيد تتلألأ الكنيسة وتطرب وتظهر قيامة المسيح في أبهى صورها ومعانيها وتراتيلها بحيث لا تضاهيها خدمة أخرى في الكنيسة، ففي هذا اليوم المشهود الذي يعتبر حقاً ” أحد السبوت وملكُهُا وسيدُها إنما هو عيد الأعياد وموسم المواسم”، تبدأ الكنيسة قداس الفصح المجيد بتلاوة إنجيل يوحنا اللاهوتي الذي ينفذ إلى أقصى معاني مقاصد الله الخلاصية سواؤٌ في الوضوح أوالرمز، فهو لا يعلن إلهية المسيح فحسب بل يقودنا في إشارته الضمنية بقوله” في البدء كان الكلمة” إلى بداية سفر التكوين “في البدء خلق الله السموات والأرض” إذ تطلعنا بدايته على أن الله خلق كل شيء حسناً وأن الإنسان كان في شركة مع الله غير أن آدم بفعل كبريائه فقدها وسقط، وفي قيامة المسيح -آدم الثاني الكُلي التواضع- الذي أطاع حتى الموت، موت الصليب، استعادت الإنسانية الشركة مع الله. القيامة، بعبارة واحدة ،هي محبة الله غير المتناهية التي جسّدها في بذل ابنه الوحيد من أجل خلاص البشرية كي تتحد به فتحيا إلى الأبد. إن إجلال قيامة المسيح بهذا القدر الكبير جعل الكنيسة تعتبر الأسبوع العظيم، بما يشمل يومي الخميس والجمعة العظيمين، مُظلّلا بفرح القيامة قبل القيامة بحيث تحمل آلام المُخلِّص وصلبه ودفنه مذاقاً فصحياً مُحيياً ومُبهجاً.
ولما كانت قيامة الرب على هذه الأهمية الكبرى، فإننا لا نحتفي بها في يوم عيد الفصح المجيد فحسب، بل تُعاش القيامة في كل قداس إلهي، في كل يوم أحد، إذ ينقل الروح القدس، الساكن في الكنيسة، مفاعيل العمل الفدائي الذي أتمه يسوع، في صلبه وقيامته المجيدة، إلى حياة الجماعة الكنسية سيما في سر الافخارستيا، ويظهر ذلك أيضا في خدم سحريات الآحاد التي يتركّز مضمونها حول القيامة المجيدة على امتداد السنة الطقسية.
صفوة القول، يقول المطران جورج خضر “إن الأرثوذكسيين قياميون”، مما يعني أن الكنيسة الأرثوذكسية في عمارتها اللاهوتية وحياتها الليتورجية وتكوينها الروحي تصطبغ بقيامة المسيح اصطباغا كاملا، وهي تحث المؤمنين على السير في طريق القيامة، طريق الغفران والنقاوة والفرح، وبهذا يتحوّل الإيمان بالقيامة إلى حياة مستنيرة بالقيامة، ولذلك لا نقول صبيحة أحد الفصح المجيد “إذ قد آمنا بقيامة المسيح ” بل نهتف بحبور “إذ قد رأينا قيامة المسيح” وهذه الرؤية والمعاينة القلبية لا نؤتاه إلا بالتنقية كما نرتل ” لننقِ حواسنا حتى نعاين المسيح ساطعا كالبرق بنور القيامة الذي لا يُدنى منه ونسمعه قائلا علانية افرحوا ونحن منشدون نشيد النصر والظفر”.
إن الحياة المسيحية فصحية بطبيعتها فهي عبور مستمر من موت الخطيئة إلى حياة البر، من البغض إلى المحبة الحقة، من اليأس إلى الرجاء، من الأنانية إلى الشراكة، فإذا سلكنا هكذا نعود أطهاراً مستنيرين وكأننا خرجنا للتوِّ من جرن المعمودية، التي بها دُفنا مع المسيح ومعه نقوم، فنصير إذذاك الخليقة الجديدة التي صالحها المسيحُ مع الآب وأحياها في اليوم الثالث.
المسيح قام، حقا قام…