معمودية المسيح ودورها في خلاص البشر
ديسمبر 29, 2023كيف يستطيع الإنسان أن ينتصر على الموت
ديسمبر 29, 2023ان مثل الإبن الضال هو مثل يعلّمنا عن سر المحبة الأبوية الإلهية بالكامل، وعن طريق الخلاص والذي يتحقق من خلال رجوع البشر إلى الله.
يتكلم هذا المثل بإسهاب عن الابن الضال وعن طريق الخلاص، كما ويكلّمنا عن الأب الذي بمحبته الكبيرة يتقبل ابنه الضال، وبالرغم من أنه يُعطي الابن الآخر دوراً هامشياً إلّا أنني كلما اسمع هذا المثل يظلّ ذهني عالقاً عند هذا الإبن الآخر، كوننا نحن المتديّنون نشعر بأننا نشابهه. هذا الابن الآخر هو الابن الأكبر والذي كان يعمل في حقل أبيه وعند اقترابه من المنزل اثناء عودته من الحقل وقد سمع أصوات الطبول تدق بفرح وحينما أُعلِمَ بأن أباه قد احتضن أخاه الأصغر وقبّله من عنقه وأمر بأن يُلبَس الحلّة الأولى وأن يذبح له العجل المسمّن ليحلّ الفرح في كل البيت مفصحاً بأن ابنه الضال كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد استاء متذمِّراً.
إن ما نلاحظه عن الأب بأنه قد تحنن على ابنه “..وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ.” (لو 15: 20) وكأنه كان ينتظره، ولكن كيف رآه من بعيد؟ في هذا الأمر يقول الذهبي الفم: “ان عيني الأب قوية جدأ، فقد رآه بعيني نفسه أي بعيني محبته وعطفه وحنانه”.
في هذا المثل نرى مشهدين: في المشهد الأول نرى الأب يعانق ابنه الذي كان ضالاً ورجع، فيقبّله ويأمر بإقامة الفرح في البيت، وفي المشهد الثاني نرى الابن الأكبر الذي سمع صوت الطبول من بعيد ولم يفرح بذلك أي بعودة أخيه، ونرى كيف أن الاب يستعطف ابنه الأكبر راجياً إياه بأن يفرح معهم ويرتضي الدخول إلى البيت، إلّا أن الابن الأكبر يعاتب أباه قائلا:”كم من السنين خدمتك ولم اخالف أوامرك الا إنك لم تعطني ولو جديا لأفرح به مع أصدقائي اما ابنك هذا الذي أخذ مالك وصرفه على الزواني فقد ذبحت له العجل المسمَّن، فيجيبه الأب قائلاً:” علينا أن نفرح لأن أخاك هذا كان ميِّتاً فعاش وكان ضالاً فوجد”.
في الحقيقة لقد كان الابن الأكبر بحاجة لمن ينوح عليه كونه لم يكن له حياة شركة مع والده، فلم يفرح لفرحه ولم يفهم أباه. إنه لأمر تراجيدي محزن ان يتصرف هكذا، فبالرغم من أن الابن الأكبر قد عمل طوال السنوات الماضية مع أبيه في حقله مطيعاً لوصاياه، إلّا أن الأمر المحزن هو أنه وبالرغم من طوال هذه السنوات لم يستطع أن يدرك طبيعة أبيه، أما الإبن الضال فبالرغم من أنه فعل خطايا كثيرة إلّا أنه في لحظة ما اكتشف في داخل قلبه حقيقة أبيه وخصوصا ًعندما جاع وأهمله الجميع حتى رفقائه تركوه فعاش مع وسخ الخنازير، حينها افتكر بيت أبيه، وهنا وجد نفسه فقرر أن يذهب إلى أبيه. لقد فعل ذلك لأنه عرف حقيقة أبيه، وكان متأكداً من هذه الحقيقة وهي أن أباه رحيم وسيتقبّله ويغفر له، فقال لأبيه: “يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا” (لو 15: 21). “اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَائكَ. ” (لو 15: 19) عالماً في قرارة نفسه حقيقة أبيه الرحيم.
إن هذا المشهد المأساوي، إذ عندما نشاهد أشخاصاً يعملون في الكنيسة أعمالاً روحية مجاهدين روحياً ويقرأون الكتب المقدّسة ويصومون ويصلّون عاملين كل هذه الأمور ولكن تصرفاتهم لا تُفهَم، وكأنهم لم يروا الرب في حياتهم، وكأنهم لم يفهموا الإنجيل وكأنه شيء غريب عنهم. ويتساءل العقل: “كيف يمكن لهؤلاء الناس الذين يعيشون في داخل الكنيسة طوال هذه المدّة بأكملها ويتناولون ويصلّون، كيف يكون لمثل هؤلاء قساوة قلب الأخ الأكبر؟ ليس لهذه القساوة أية علاقة بالمسيح. لماذا يحدث لنا مثلما حدث مع الأخ الأكبر؟ قائلين في ذواتنا: “إني أنا عبدٌ وخادم لله طوال هذه المدّة ولم أخالف وصاياه” إن هذا الاكتفاء والرضا عن الذات يخلق هوّة بيننا وبين الله ويصير كأنه غريب عنا فلا نفهمه، خاصة حينما نبرر أنفسنا (أي نُظهر أنفسنا بأننا أبرار وقديسون) كما حدث مع الابن الأكبر حين قال لأبيه: “وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ!” (لو 15: 30). قال عنه (ابنك) ولم يقل عنه (أخي)، جاءك اليوم لكي يأخذ مالاً أكثر مما أخذه سابقاً بينما أنا لم أجد هذا الاهتمام منك.
لماذا صدرت من الابن الأكبر هذه الكلمات؟ لأنه لم يشعر أبداً في داخله بالحاجة لمعرفة أبيه. أما المسيح فقد قال: “وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ.” (يو 17: 3). وقال أيضاً “ا..َتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ.” (مت 11: 29).
بالنتيجة فإن علاقتنا مع الله ليست علاقة تبعية وليس بأن الله هو على مزاجنا فنؤمن به، وإنما هو أكثر من ذلك لأنه هو الذي يُظهِر لنا ذاته، وكونه قد خلقنا على صورته ومثاله إذاً علينا أن نتشبّه به وإلّا فكيف نصير أبناءً له إن لم نسِر على إثره ونشابهه؟ إذاً كيف نكون مشابهين له؟ بالطبع ليس من الظاهر الخارجي وإنما من قلبنا، بأن نكون متواضعي القلب وودعاء، وهنا نجد الراحة لنفوسنا.
بكلمة واحدة كشف الله لنا عن ذاته كي لا نضل وكي لا نجد أي تبريرللذات بأننا لم نفهمه، ولكي نفهمه علينا ان نحطِّم قناعاتنا الذاتية بأن صلاحنا قد وصل إلى درجة الاكتفاء وبأننا ولسنوات عديدة خدمنا الرب، لأن هذه الأفكار تعيقنا عن فهم الله.
جاء بعض الشباب المستهزئون إلى الأب باييسيوس سائلين إياه قائلين: “إنك هنا في جبل آثوس منذ زمن طويل، فكيف جئت إلى هنا ومتى؟” فأجابهم: “لقد جئت هنا في نفس الوقت الذي جاء فيه بغل جاري”، بإجابته هذه أراد أن يقول لهم ان البغل جاء وعاش في جبل آثوس وظلَّ بغلاً ولم يصبح قديساً، وقد قصد بهذا القول ذاته لأنه كان متواضعاً.
وقال أيضاًعن رجال الله القديسين: ” قد عبروا أتون التجارب والأحزان، وهكذا اقتنوا الفضائل” فعندما نقول (تجارب) لا ينحصر فكرنا فقط بالتجارب التي يجابهها الإنسان بسبب محبته للمسيح وأنه واجه الاضطهادات من أجلها، وإنما هناك تجارب من نوع آخر تحاول أن تدمرنا مثل: الخطايا والأهواء، والتجارب اِلإلحادية، وتجارب أخرى، أيضاً هناك أناس يجابهون تجارب مرعبة مثال القديس نيفون الذي إن قرأنا قصة حياته سنجد كم من التجارب التي جابهها ولمدة طويلة، فبالرغم من أنه كان مجاهداً عنيفاً إلا أنه كان يحارَب من تجربة الإلحاد، فقد قال له الشيطان: “لا يوجد إله” ولكن القديس كان يصرخ: “يا رب ساعدني”، كانت حرباً شديدة وقاسية عليه لدرجة الجنون، وكان يقول له الشيطان: “أنت زانٍ وعاهر”، وكان يحاربه بشدّة أما القديس فكان يجيبه: “إني وإن أزني أو أقتل أو أي شيء أفعله إلا أنني لن اترك أرجل يسوع المسيح”، لقد وضع نفسه في الأسفل فسحق صنم ذاته وهكذا كان يرفض أن يرى نفسه بصورة الإنسان الجيد والخلوق ساحقاً كل هذه الأفكار التي تولّد لديه الكبرياء.
لقد وُجِدَ الابن الضال في كورة بعيدة حيث عاش فيها بالعناء مواجهاً الدّمار والشقاء فعاد إلى نفسه وسحق ذاته، وإذ به يعود إلى الله بعدما رعى الخنازير ذائقاً كافة أنواع الجوع والهجران والوحدة فحينها تذكر أباه من وسط الظلمة، فعندما شعر أن كل شيء قد انتهى وأن حياته قد دُمِّرت مواجهاً الموت، حينها بتذكره أباه يظهر له الفادي ويجعله يجد ذاته. لقد دفعته هذه الحالة المزرية إلى العودة لذاته وبالتالي العودة إلى أبيه، بينما الولد الأكبر لم تكن لديه هذه الاختبارات، ليس لأن الله قد حرمه من مثل هكذا اختبارات وإنما بسبب تفكيره عن ذاته بأنه جيد وبأنه يخدم أباه طوال هذه السنين دون أن يتركه مطلقاً، هذا الفكر جعله يقع في خطيئة “الشعور بالرضا عن الذات” مما جعله يرى نفسه بصورة جيده مكتفياً بتلك الحالة، لقد شكَّل هذا التفكير عائقاً له في اكتشاف الله أو أبيه. هذه هي الحالة المأساوية التي يعيشها الكثير من المصلّين في العالم، والذين يعتقدون بأنهم لا يفعلون الخطايا الكبيرة وهكذا يفقدون خلاصهم دون أن يعوا ذلك.
إن كنا لا نحيا مع الله فإننا لا نستطيع أن نشعر بوجوده فينا وبالتالي لن نستطيع أن نعرفه.
أنا أحزن وأول ما أحزن إنما على نفسي حينما أرى وأسمع أشخاصاً في الكنيسة في داخلهم احتقار للخطأة أو للضالين أو للذين يسيرون في طريق الشقاء فاعلين الشر، قائلين في أنفسنا أنه علينا أن لا نكلِّمهم ولا نتعامل معهم لأنهم ضائعون. إن إنسان الله لا يدين، فالإنجيل يعلّمنا أن لا نحتقر الآخرين، إذاَ كيف لنا أن نحيا هكذا دينونة؟ هذا يعني أننا لم نفهم الله أو الإنجيل ولم نفهم أن الله محبة، وأن من لديه محبة الله هو فقط الذي يبقى.
إن مقياس الوجود الإلهي في قلبك هو محبة الآخر، هذه هي دينونة الله، وأن كل ما تفعله في الكنيسة يجب أن يتّجه إلى هدف واحد وهو المحبة، وأما الصوم والصلاة والتوبة فإن لم يكن فيهم المحبة فإنهم سيقودوننا إلى الأنانية وإلى الاكتفاء بما حققته الذات، وبالتالي بدلاً من أن تكون لنا نتائج نِعَم الروح القدس مثمرة فينا الفضائل تصير لنا سموماً تحجبنا عن معرفة الله، وهذا أمر محزن حقاً لأنها ستأتي ساعة في حياتنا وهي غير متوقعة إذ من خلال تجربة ما أو حزن أو خسارة مادية أو موت أو مرض أو أي شيء آخر، حينها قد نتذمَّر على الله قائلين لماذا حصلت لنا هذه التجارب؟ ولماذا لم يرسلها الله إلى الذين لا يذهبون إلى الكنائس؟ أو إلى الخطأة الذين لا يصلّون وهم نراهم يعيشون بأفضل أنواع الحياة؟ إن هكذا تفكير إنما يدل على أن حياتنا الروحية ليست جيدة. حقاً ان الله لا يهمل أحداً وأن كل ما نعطيه له يردّه علينا بالخير، وأنه لا يتركنا إن فعلنا ما بوسع طاقتنا، ولكن المصائب مهمة في حياة المؤمن كونها تدفعه إلى التفكير في ذاته بحثاً عن كيفية الرجوع إلى الله.
يعلّمنا بولس الرسول بأن لا نضل في شعورنا عن ذواتنا بأننا على مستوى رفيع من الروحانية واضعاً أمامنا أموراً كثيرة كي نراها لنعرف أين نحن فعلاً من الحياة الروحية قائلاً: ” وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ” (غلاطية 5: 22 – 23).
علينا أن نفكر في كل واحدة على حدةٍ ونعرف ما يتوفر لدينا منها وما ينقصنا. هل يوجد عندي فرح؟ أم يكون هذا الفرح فقط عندما يعطيني الله ما أرغب به؟ وبالتالي علي أن أسأل نفسي ما يجب علي فعله حتى أقتني ثمار الروح، وعلي أن أدرك بأنني بعيد عن الله وهذا ما يجعلني أنسحق قلبياً حتى أشعر بوجود الله فيَّ، وأما عندما أرى تصرفات الآخرين المسيئة فعلي أن أرفض الخطيئة ولكن دون إدانة فاعليها.
علينا أن نكون صريحين مع أنفسنا ونبحث عن المفتاح الذي يوصلنا إلى الله، فهذا المفتاح وجده العشار عندما قال: “يارب ارحمني أنا عبدك الخاطئ”، وهذا ما فعله الابن الضال أيضاً وبالتالي ربح الله عندما قال: “يا ابتِ لقد أخطأت أمام السماء وأمامك” حينها أصبح مقبولاً لدى الرب. أما الأخ الأكبر فقد ذهب معاتباً أباه بشكل حقوقي وعدلي أي: “قد خدمتك طوال هذه السنين”، نعم ان كل ما قاله الأخ الأكبر كان حقيقة إذ أنه قام بأمور حسنة ولكنه لم يستطع أن يعرف أباه أي الله أو أن يقترب منه، ولذلك نرتل في يوم الجمعة العظيمة قائلين عن اللص الذي على اليمين: “إن كلمة اذكرني يا رب متى أتيت في ملكوتك” هي بمثابة المفتاح للدخول إلى هذا الملكوت.
ويقول الآباء ان الإنجيل سهل وصعب في آن واحد، ولكن على المؤمن أن يجد مفتاح الباب الذي يؤدي إلى الملكوت. إن كل تراتيل الصيام تعلّمنا التواضع والتوبة والاقتداء بالله، وبالتالي نستطيع حينها أن نراه.
إن من يقتدي بالله هو من يتبعه مشاركاً إياه في آلامه وصلبه وفي كل مراحل حياته حتى نستطيع أن نرى قيامتنا.