القديس غريغوريوس بلاماس معلم عظيم للصلاة القلبية
ديسمبر 29, 2023أحد مرفع الجبن
ديسمبر 29, 2023السؤال المطروح الآن هو: كيف ستنتهي الخزعبلات؟ ومن أين يبدأ الإيمان؟
نجد الإجابة على هذا السؤال في تعاليم الآباء الثابتة، والتي تقول ما يلي:
ان الإنسان الذي يظن بأنه يتبع تعاليم المسيح بشكل جيد، أي أنه يذهب إلى الكنيسة أيام الآحاد، ويواظب على تناول الأسرار المقدّسة بشكل مستمر، ويستدعي الكهنة إلى بيته لتقديس المنزل ولإقامة صلاة الزيت وغيرها، ولكنّه يمارسها دون أن يتعمّق بمعاني هذه الخِدم المقدّسة وإنما يمارسها ضمن حرفية الناموس دون روحه، فهل يستفيد ذاك الإنسان من الأرثوذكسية؟
وإن يوجد هناك شخص آخر يصلّي باستمرار من أجل الحياة الأخرى لخلاص نفسه وخلاص الآخرين مزدرياً بالكلّية هذه الحياة الحاضرة، فهل هذا الشخص هو الذي سيتسفيد من الأرثوذكسية؟
ولا يقتصر هذا الأمر على الرعيّة فحسب وإنما على الفئة الإكليريكية أيضاً، حيث تمثّل الفئة الأولى الكاهن الذي يلتفّ حوله أبناء رعيته ويحيا بحرفيّة الناموس دون روحه، كما وتمثِّل الفئة الثانية أحداً من شيوخ الدير والذي قد يكون أرشمندريتاً، يحيا واضعاً موته نصب عينيه مع بعض الرهبان الذين يلتفّون حوله.
هذان النوعان إن لم تكن التنقية والاستنارة محور حياتهما، فإنهما وبحسب النظرة الآبائية يسيران بطريقة خاطئة فيما يصبوان إليه، أما الذين يتمحورون حول التنقية والاستنارة ويطبّقون الحياة النسكيّة الروحانيّة الآبائية لكي يصِلوا إلى الصلاة القلبية، فهؤلاء هم فقط من توضَع حياتهم على المسار الصحيح.
إن ما تكلمنا عنه من النوعين السابقين هما على طرفي النقيض، ولا يوجد بينهما أي محور مشترك. إن المحور المشترك الذي تحافظ عليه الأرثوذكسية باستمرار هو محور وحيد وفريد وهو فوق جميع الاهتمامات اليومية الأخرى سواء كانت مادية أم روحية، وهذا المحور هو التنقية والاستنارة والتأله.
لم يهتم الآباء بما سيحدث للإنسان بعد الموت، ولكن الأمر الوحيد الذي كانوا يهتمون به هو صيرورة الإنسان خلال حياته على الأرض، كونه ليس هناك إمكانية لشفاء النوس او الذهن بعد الموت، وبالتالي فإن عمليّة تعافي الذهن ( _____) يجب أن تبدأ من هذه الحياة، لأنه لا يوجد توبة في الجحيم، لذلك فإن اللاهوت الأرثوذكسي ليس هو فوق العالم ولا هو مستقبلي أو أخروي، وإنما هو وبكل وضوح يعاش في هذا الزمن الحاضر وعلى هذا الكوكب العالمي، لأن اهتمام اللاهوت الأرثوذكسي هو من أجل الإنسان الذي يحيا حالياً في هذا العالم وليس من أجل الذين صاروا في حياة ما بعد الموت.
هذا التعليم يستدعينا لطرح الأسئلة التالية: لماذا تعتبر التنقية والاستنارة ضروريّة؟ وما هي منفعتها؟هل هي ضروريّة من أجل أن يذهب الإنسان إلى الجنذة ويتجنَّب الدخول في الجحيم؟ أم لماذا هي إذاً؟ وبماذا تفيدنا التنقية والاستنارة؟ ولماذا نسعى للوصول إليها في الحياة الأرثوذكسية؟
حتى نجيب على هذه الأسئلة علينا أن نحصل على المفتاح الأساسي وهو التالي:
إن جميع البشر على هذه الأرض ومن وجهة نظر أرثوذكسية لهم نفس النهاية بغض النظر عن إيمان كلّ منهم وماهيته سواء كان أرثوذكسياً أو بوذياً أو هندياً أو بلا دين أو ملحداً، وبالتالي فإن جميع البشر محتّم عليهم أن يروا مجد الله. نعم، كل إنسان سوف يرى مجد الله في هذه النهاية المشتركة للإنسانية جمعاء يوم المجيء الثاني للمسيح، ومن وجهة النظر هذه فإنه في النهاية سيكون هناك نوعان من البشر، الجميع سيرون مجد الله ولكن كل نوع سيراه بمنظور معيّن ومختلف عن النوع الآخر، فالمخلّصون سيرون مجد الله بشكل نور عذْب لا يغرب، وأما الأشرار فسيرون مجد الله بشكل نار حارقة تحرقهم.
وهكذا إذاً فإن الجميع سيرون مجد الله، وهذا المجد هو حقيقي وهو هدف العالم أجمع بأن نرى مجد الله أي النور الإلهي، وهذا الأمر سيحدث إن شئنا أم أبينا، ولكن نوعيّة أشتراكنا في هذا المجد ستكون مختلفة من شخص إلى آخر، لذلك فإن عمل الكنيسة والكهنة ليس من أجل مساعدتنا لرؤية مجد الله، لأن هذا الحدث سيتم بكل تأكيد، وللجميع دون استثناء، ولكن عمل الكنيسة يجب أن يتركز في كيفية رؤيتنا لهذا المجد، وليس في تمكيننا لرؤية الله.
أي أن عمل الكنيسة هو: أن تعِظ وتعلِّم الناس أن الله موجود بالحقيقة، وأن الله سيظهَر لنا إما ناراً أو نوراً، وان جميع البشر في المجيء الثاني سيرون الله، وبالتالي على الكنيسة أن تهيئ أبناءها لرؤية مجد الله نوراً وليس ناراً.
هذه التهيئة الواجبة على الكنيسة لأعضائها وعليها تبشير العالم كي يروا الله كنور. إن هذا التعليم بجوهره هو تعليم شفائي، وعليه أن يبدأ وينتهي في هذه الحياة على الأرض، أي يجب علينا أن نتنقى خلال حياتنا على الأرض كونه لا يوجد توبة بعد الموت.
هذا السلوك العلاجي هو محور وجوهر ومحتوى التقليد الأرثوذكسي، وهو يعتبر الاهتمام الرئيسي في الكنيسة الأرثوذكسية، ويتألف ويتكون من المراحل الروحية الثلاث:
1- التنقية من الأهواء.
2- الاستنارة.
3- التألّه بنعمة الله.
وبالتالي إن لم يصل الإنسان للاستنارة كحد أدنى ولو بشكل بسيط في هذه الحياة، فإنه لن يستطيع أن يرى مجد الله كنور لا في هذه الحياة الحاضرة ولا في الحياة الأخرى، وهذا الأمر واضح من جهة آباء الكنيسة إذ يهتمون بالإنسان المعاصر في هذا الوقت وفي هذه اللحظة، فكل إنسان بحاجة للشفاء. وعلى عاتق كلٍّ منّا مسؤوليته الخلاصية أمام الله، وعليه أن يبدأ من هذه اللحظة ومن هذه الحياة لأنه من هذه الحياة فقط يستطيع أن يصل إلى الاستنارة وليس بعد الموت، وبالتالي فإن الإنسان نفسه هو من سيقرر ان كان سيتبع هذه الطريق الشفائية أم لا.
قال المسيح: “أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي.” (يو 14: 6)، الطريق نحو ماذا؟ في الحقيقة ان المسيح ليس هو الطريق في الحياة الأخرى فحسب وإنما هو الطريق في حياتنا هذه، ولكنّه أيضاً هو الطريق نحو أبيه وأبينا، فالمسيح يظهر للإنسان في هذه الحياة ويظهر له الطريق نحو الآب لأن الطريق هو نفسه المسيح.
إن لم يرَ الإنسان المسيح في هذه الحياة حتى ولو قلبياً على الأقل، فإنه لن يرى الآب، أي لن يرى نور الله في الحياة الأخرى.