صلاةُ “الختنِ” الثّالثة
أبريل 30, 2024خدمةِ القدّاسِ السّابقِ تقديسُهُ ( البروجيازميني )
مايو 1, 2024يصف مقطع الإنجيل اليوم دخول يسوع المسيح المنتصر إلى أورشليم، ويتضح من هذه الحادثة كاملة أن دخول يسوع إلى المدينة المقدسة كان دخولاً بهياً، دخول الفاتحين المنتصرين. فقط بعين الإيمان المعلن لنا بالروح القدس نستطيع أن نفهم معنى النبؤات المسيانية حول هذا الدخول والمؤدي إلى انتقال المسيح المنتصر إلى مجده.
لقد حرَّك دخول يسوع إلى أورشليم مشاعر وأرواح المحيطين به، لا سيما الحجاج المحليين وأهمهم الجليليين الذين حافظوا على رجائهم بانتظار قدوم المسيَّا، لأن عيد الفصح كان قريباً، فالفصح يذكرّهم بالتحرُّر من عبودية مصر. كان هناك تحفظاً من قِبَل سكان أورشليم على هذا الدخول كونهم كانوا تحت القيادة الدينية التي كانت تخاف من الآراء الثورية للشعب ضد الحكم الروماني بسبب تلك الثورات الدامية التي وقعت في أورشليم من حين لآخر والتي أسفرت عن مقتل الكثيرين أثناء عمليات إخمادها من قِبَل الجيش الروماني، أما سكَان الريف المجاورة لأورشليم فقد كانوا في حالة فوران وغليان مستمر، وكونهم كانوا في أورشليم من أجل الاحتفال بعيد الفصح فبمجرد أن سمعوا أن يسوع قادم هرعوا لاستقباله.
إن أحداث هذا المشهد بأكمله اليوم تذكرنا أيضًا بمشاهد استقبال الشعب لعودة قادتهم الفاتحين المنتصرين حين دخولهم إلى مدينتهم، حيث كان الشعب يلوِّح بسعف النخيل بابتهاج وفرح عظيم. وأغصان النخيل (السعف) هذه كان يستخدمها اليهود في عيد المظال ثم يحتفظون بها في منازلهم. إن وجود أغصان النخيل اليوم يعطي استقبال يسوع المسيح طابعًا احتفاليًا ورونقاً جميلاً للعيد، لأن الأغصان كانت رمزًا لفرح الانتصار في العصور القديمة (راجع 1 ماك 13 ، 51 ؛ راجع الرؤيا 7 ، 9).
والذي زيّن بالأكثر جو دخول الانتصار هذا هو صرخات الجموع التي تعبر عن وضع آمال الشعب في شخص يسوع، وكان يعبر المتظاهرون عن أنفسهم هاتفين: “أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب “(117 (عب 118) ، 25-26). أوصنا تترجم ب “خلّصنا” أي “خلّصنا إذاً يا رب!” ويعبر عن الرغبة الملحّة للشعب للتخلُّص والتحرُّر من الحكم الروماني. صرخة “أوصنا” هذه تبدو وكأنها، صرخة شعب يائس وقد رأى في وجه يسوع الملك المنقذ لإسرائيل والذي سيعيد مملكة داود.
ثم يؤكد الإنجيلي أن دخول يسوع الملَكَي المنتصِر لم يلبِّ تمامًا هذه التوقعات القومية، كون يسوع لم يدخل على ظهور الخيل وعربات مرصّعة بالجواهر، كما فعل الملوك القدامى، بل أنه دخل جالسًا على حمار، ربًا مسالمًا، وديعاً ومتواضعًا يركب على جحش ابن أتان وهذا لكي يتم الكتاب، ليس من ناحية حيثية وكيفية الدخول وإنما في حياة المسيح المتواضعة، فحياة يسوع كشفت المعنى الحقيقي لنبوءات العهد القديم.
إن النبوءة هي مزيج من (إشعياء 40 : 9) “عَلَى جَبَل عَال اصْعَدِي، يَا مُبَشِّرَةَ صِهْيَوْنَ. ارْفَعِي صَوْتَكِ بِقُوَّةٍ، يَا مُبَشِّرَةَ أُورُشَلِيمَ. ارْفَعِي لاَ تَخَافِي. قُولِي لِمُدُنِ يَهُوذَا: «هُوَذَا إِلهُكِ.” و(زكريا 9 : 9) “اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ.”. يصف النبي المسيح بأنه حاكم مسالم ومتواضع على عكس الملوك الأرضيين المحاربين في عصره، الذين كانوا يبجِّلون أنفسهم، ولكن قوة المسيّا لا تستند على العربات والخيول، كونه لا يُقصَد من مُلكِه إقامة دولة أرضية قوية. على العكس من ذلك، فإن المسيح يظهر وكأنه ضعيفاً بحسب العالم، ولكن بحسب النبوءة يؤكد النبي بأن عمله سيكون مُبهِراً، إذا يقول بأنه ليس هناك سبباً يدعو شعب الرب إلى القلق، لأن المسيّا سيردُّ لنا ملكوت الله، لأنه جاء من عند الله ويحضر لنا ملكوته.
لم يتمكن الرسل من معرفة المعنى الحقيقي للنبوة وتحقيقها في شخص يسوع المسيح، أي لم يكن باستطاعتهم فهمها وقبولها حين “تمجَّد يسوع”. إن مجد يسوع ليس هو نجاحًا دنيويًا، بل هو الصليب والقيامة، هو المجد الحقيقي كما ويؤكد ذلك الإنجيلي يوحنا. وأن هذا المجد مرتبط بالقيامة وبحلول الروح القدس على التلاميذ أي بـِ “الصليب والقيامة والعنصرة” فهي جميعها مترابطة ارتباطاً وثيقاً مع بعضها البعض، لذلك لم يفهم الرسل الأطهار معنى هذا الدخول إلّا بعد قيامة الرب يسوع المسيح مستنيرين بنور القيامة ومن ثم حلول الروح القدس عليهم، إذ لا يمكن لدارسي الكتاب المقدس فهم كلماته اعتماداً على العقل البشري ولا بالتعمُّق اللاهوتي بل اعتماداً على نعمة الروح القدس المحيية التي يمنحها مجد المسيح، لأن الواقع التجريبي أي حياة الاختبار اللاهوتي هي وحدها تمكِّن الإنسان من الوصول إلى “الحقيقة” التي يمكن أن تخلص الإنسان. مجرد دراسة الكتاب المقدس أو رؤية الأعمال أو سماع كلمات يسوع لا يمكن أن تؤدي إلى الخلاص أو الإيمان وإنما هي الحياة بالمسيح يسوع وبنعمة الروح القدس، هذا فقط ما يمكِّن الإنسان من استقبال جميع هذه الحقائق، وأما نعمة الروح القدس فتكون فاعلة فقط داخل نطاق الكنيسة، لذلك فإن فهم الكتاب المقدس يفترض ان يسبقه حلول الروح القدس على الإنسان، وهذا الحلول يتحقق من داخل الكنيسة. حتى بالنسبة للرسل، فإنهم وقت أحد الشعانين لم يتمكنوا من فهم ما صنعه المسيح إلّا بعد العنصرة، لأنهم كانوا بحاجة إلى “مجد” المسيح، الذي به فتحت أعينهم الروحية وتمكنوا من فهم عمل المسيح الخلاصي. لا يعتمد الإيمان على البراهين المنطقية الحسّية، بل بدخول الإنسان إلى اختبار نعمة الروح القدس.
إن محاولة تأسيس الإيمان فقط على القوة والعقل البشريين هي في الواقع خطأ، إذ يمكن للشخص غير المسيحي أن يفهم بعض أحداث حياة يسوع لغاية الصلب، لكن هذا لا يكفي لتحقيق الإيمان الخلاصي، فقط عندما يتلقى الإنسان نعمة الروح القدس، حينها سيخلص لأنه حينها سيكون قادرًا على رؤية أعمال الرب يسوع المسيح الخلاصية بأعين روحيّة وبمفهوم جديد.
لم يُرَ يسوع القائم إلا من قبل التلاميذ الذين كانوا مستنيرين (انظر أعمال الرسل 10 : 40) “هذَا أَقَامَهُ اللهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَعْطَى أَنْ يَصِيرَ ظَاهِرًا”، وبالتالي فإن حلول الروح القدس هو الذي جعلهم يتقبلون هذا الإيمان ويعيشوا حياة الخليقة الجديدة في الكنيسة.
وأخيراً، يميّز الإنجيلي بين نوعيتين من الشعب الحاضر في أحد الشعانين ويقسّمهم إلى قسمين:
أولاً: الجموع التي شاهدت قيامة لعازر كشاهد على القوة الإلهية ليسوع المسيح.
ثانيا: حشد أورشليم الذين كانوا يندفعون وراء يسوع بدافع الفضول من أجل مشاهدة المعجزات من منطلق أن يروه بأنه المسيّا المنتظر.
ولكن كل من هذين النوعين من الشعب لم يفهم المعنى الحقيقي لعمل دخول المسيح إلى أورشليم.
نلاحظ بأننا أمام مشهدين:
في المشهد الأول: يمر يسوع الرئيس بين هتاف الحشد منتصرًا.
في المشهد الثاني: يسوع يسير وسط شعب يعتبره ملك الكنيسة، يسير بين أعدائه في وسط عالم يجهل ساعة تمجيده أي الصليب والقيامة، ولكن تاريخ الخلاص لا يُفهَم إلّا باختبار نعمة الروح القدس من خلال عين الإيمان حتى يستطيع أن يعرف المسيح على حقيقته.