من أين يبدأ الإيمان للأب رومانيدس
ديسمبر 29, 2023أحد حاملات الطيب
ديسمبر 29, 2023لقد كرّس الآباء القديسون هذا الأحد لذكرى حادثة طرد آدم وحواء من الفردوس، إذ ان هذا الأحد يسبق الصيام الأربعيني المقدَّس لكي يعلّمنا الآباء عملياً كم هو مفيد دواء الصيام للطبيعة البشرية، وكم هي سيئة كثرة الأطعمة وعصيان كلمة الله.
إن ما حدث لآدم لأمر رهيب، ولكن الآباء يركزون في تعليمنا على عِظَم الإساءة التي حدثت لآدم بسبب العصيان إذ بسبب عدم الصوم لفترة وجيزة كم حدث من الإساءة للجنس البشري، وهكذا يعلّموننا بأن أول وصيّة كانت من الله للإنسان هي فائدة وصلاح الصيام، ولكن آدم لم يحافظ على هذه الوصية لأنه سار وراء شهوات معدته أو بمعنى آخر سار وراء وُعود الحيّة (الشيطان) من خلال حوّاء بأنه سيصبح إلهاً، ولكن هذا الوعد لم يكن كاذباً فحسب وإنما أيضاً بسببه ذاق آدم الموت، وورَّث هذه الحالة المرضيّة للجنس البشري بأكمله.
جرّاء تمتُّع آدم بمذاق ثمر هذه الشجرة مخالفاً بها وصيّة الله، صام المسيح (آدم الثاني) أربعين يوماً طائعاً لوصية الله ألا وهي الصيام. وكي نتشبّه نحن أيضاً بالمسيح يسوع وضع لنا الآباء الرسل والقديسون الصوم الأربعيني المقدَّس. ونتيجة لما أقدم عليه آدم مخالفاً وصية الصيام فَقَدَ ميزة عدم الفساد، وأما نحن فنحافظ بدورنا على هذه الوصية (الصيام) لنحصل على عدم الموت.
ولهذا السبب وضع لنا الآباء القديسون المقطع الإنجيلي في هذا الأحد حول الطعام وأهمية الانقطاع عنه في (متى 6: 14 – 21) لكي يعلّموا ما فعله الله من الخيرات الكثيرة من أجل الإنسان وكيف أن الإنسان أضاع كل شيء من خلال عدم محافظته على وصية الصيام، وبسبب تمرّده ضد الله.
“فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلاَتِكُمْ. «وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. «لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا”.(متى 6: 14 – 21).
وهكذا يشجعنا الآباء القديسون على الصيام والطاعة لوصايا الرب.
لقد خُلِقَ آدم على يدي الله في اليوم السادس، كما وأكرمه الله إذ خلقه على صورته عندما نفخ فيه، وبعدها أعطاه الوصية، ويعلمنا الآباء القديسون بأن آدم عاش في الفردوس لمدة ست ساعات قبْل أن يعصي وصية الله وبعدها طُرِدَ من الفردوس، أما فيلون اليهودي فيفسِّر هذا المقطع بأن آدم عاش في الفردوس مائة عام، وآخرون يقولون بأنه عاش في الفردوس سبعة أيام، وآخرون يقولون عاش سبع سنين (هذه الأرقام موجودة في التقليد اليهودي لأن اليهود يكرمون الرقم سبعة كرمز للكمال). في المسيحية نؤمن بأن المسيح بسط يديه على الصليب في الساعة السادسة وفيها ذاق الموت الذي تذوّقه آدم في الفردوس، وبالتالي قد يكون المسيح اختار اليوم السادس والساعة السادسة لحظة الصلب كي يعيد آدم الذي تذوق الموت أيضاً في الساعة السادسة عينها، وذلك لكي يعيده إلى الحياة والقيامة.
كان آدم قبل السقوط يحيا في حرية الاختيار ما بين حالة الفساد وعدم الفساد، وبالتالي اعتمد توجهه هذا على اختياره بكامل حريته. كان بإمكان الله أن يخلقه غير قابل للخطيئة مما يجنِّبه السقوط إلّا أن الله أراد أن يكون الفردوس ثمراً لتعبه وعمله، لذلك أعطاه الرب تلك الوصية بأن يأكل من جميع شجر الجنّة ما عدا شجرة معرفة الخير والشر، وهذا يعني أن الله قد أعطى آدم إمكانية معرفة جوهر وطبيعة كل الكائنات والمخلوقات الأخرى ما عدا معرفة جوهر الله وطبيعته، وهذا ما يعلّمنا إياه القديس غريغوريوس اللاهوتي بأن جميع شجر الجنّة كانت تدعو لمعرفة القدرات الإلهية، ولكن الشجرة الممنوعة كانت هي الرؤية الإلهية أي التألُّه، أي أن الله أعطى آدم أن يتفحّص كافة المخلوقات وطبائعها وبالتالي فإنه من خلال تلك المعرفة سيمجّد الله، كما وأعطاه أيضاً إمكانية معرفة طبيعة ذاته وهذا هو معنى حياة التنعم في الفردوس، ولكن عندما بدأ الإنسان يفكر بالله وبجوهره وبطبيعته وكيف خلق الموجودات من العدم حينها سقط لأن هذا ما يفوق إدراكه.
إذاً نرى أن آدم قد ترك كل شيء وتوجّه لتفحّص كل ما له علاقة بالله وتفحّص طبيعته الإلهية. وبما أنه كان وما زال غير كامل وبسيطاً وطفلاً في هذه الأمور أراد أن يعرفها، حينها استخدم الشيطان حواء واضعاً في تفكير وطموح آدم التألُّه ولكن بطريقة خاطئة إذ اوحى إليه بأنه يستطيع الوصول إلى ذلك دون الحاجة إلى الله وإنما بقدرته الذاتية، فسقط.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم بأنه كان لهذه الشجرة معنى مزدوجاً إذ أن الفردوس كان موجوداً على الأرض من ناحيتين (روحيّة وماديّة) وكان آدم يتمتع بهما في نفس الوقت وكان يوجد في حالة وسطية ما بين الفساد وعدم الفساد. وبهذا التفسير بقي القديس من جهة مع حرفية الكتاب المقدّس ومن جهة أخرى لم يذهب بعيداً عن المعنى.
يقول البعض أن شجرة المعصية كانت شجرة تين لأنه ما أن عرف الجدّان الأولان بأنهما كانا عريانين وإذ بهما يستخدمان ورق هذه الشجرة لكي يغطوا بهم عورتهما، وهنا نرى أن المسيح قد لعن شجرة التين لأنها صارت علّه الخطيئة.
حقاً عندما نتأمل شجرة التين نجد بأنها تحتوي على عناصر لها صلة بمعنى الخطيئة:
أولاً: يوجد لثمرها طعم حلاوة كما هو للخطيئة.
ثانياً: أوراقها خشنة وهذا يرمز لخشونة الحياة ما بعد انحراف الضمير والخطيئة.
ثالثاً: أغصان التين تُخرجُ سائلاً مثل الحليب، وهذا ما أن يأتي على اليدين إلّا ويلتصق بهما كالدَبَق، تماماً مثل الخطيئة التي ما أن يجرّبها الإنسان منجذباً لها وإلّا بها تلتصق به كالدَّبَق رافضة عَتْقه منها.
قال بعض من المفسّرين بأن هذه الشجرة كانت ترمز إلى العلاقة الجسدية التي بين آدم وحواء ولكن هذا التفسير تم رفضه.
عندما خالف آدم وصية الله لبس الجسد البشري المائت وأخذ اللعنة وعاش بالعذاب على الأرض مطروداً من الفردوس، وبعدها أمر الرب بأن تُحفَظ أبواب الفردوس بالحربة المنقلبة حتى لا يدخلها آدم وحواء. (تكوين 3: 23 – 24) “فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الإِلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا. فَطَرَدَ الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ”.
وكان آدم يبكي فقدان الفردوس كلما كان يفتكر في الخيرات العظيمة التي فقدها كونه لم يحافظ على وصية الصيام. وكان أيضاً ينوح على ما قد ورَّثه للجنس البشري من آلام. واستمر هذا الألم إلى أن جاء هذا الذي خلقنا بنفسه متحنّناً على طبيعتنا التي دمّرها الشيطان، فوُلد من العذراء وعاش حياة رائعة وكاملة مرشداً إيانا إلى الطريق الذي يعاكس إرادة الشيطان ألا وهي طريق الصيام والتواضع، وبحكمته العظيمة انتصر على ذاك الذي خدعنا، ومن فائق رحمته لنا أعادنا إلى مجده القديم قرب الله.
نلاحظ أن آبائنا القديسين يعلموننا هذه التعاليم كلها من خلال كتب الصيام (التريودي)، ففيها يذكرون ما كتبه العهد القديم أي عملية الخلق ومن ثم خروج آدم من الفردوس (التي شرحناها أعلاه) ويذكرون أيضاً كل ما ذكره موسى والأنبياء وداود النبي، وبعد ذلك يعلموننا ما ذكره العهد الجديد بدءاً من بشارة مريم العذراء والدة الإله والذي نعيّد له في وسط الصيام الأربعيني المقدس، وبعد ذلك يذكرون ما حدث لأليعازر وأحد الشعانين والأسبوع العظيم، واضعين لنا إرشادات بأن تُقرأ المقاطع الإنجيلية ذات الصلة بما يتعلق بكل التفاصيل التي تتكلم عن أحداث آلام الرب يسوع المسيح، وبعد ذلك يذكرون ما حدث في القيامة مروراً بجميع الأعياد إلى عيد حلول الروح القدس (العنصرة)، وبعد ذلك يذكرون أعمال الرسل فيعلموننا بها كيف بدأ الرسل البشاة وكيف استقطبوا إلى حضن الكنيسة جميع القديسين من جميع أنحاء العالم. إن أعمال الرسل تؤكد القيامة من خلال أفعالهم العجائبية التي كانت تتم على اسم الرب يسوع المسيح المصلوب والقائم.
كون أن عدم التزام آدم بالصيام ولمرّة واحدة آل بنا إلى ما حصل، لذا وضعت الكنيسة من ضمن أولوياتها بأن تذكُر في بداية الصيام هذه الحادثة (خروج آدم من الفردوس)، وهكذا فإن الكنيسة تذكّرنا بما حدث لنا من الشرور بسبب عصيان وصية الصيام، لذلك علينا أن نتقبَّل فترة الصيام بفرح بخلاف ما فعل آدم، وملتزمين بها كي نصل إلى ما لم يستطع آدم الوصول إليه ألا وهو التألًّه، طالبين ذلك بالدموع والتوبة والصوم والتواضع لغاية ما يفتقدنا الله، لأننا دون هذه الوسائل لا نستطيع أن نستعيد ما قد فقدناه.
يجب علينا أن نعرف أن الصيام الأربعيني المقدس يعتبر عُشر السنة، حيث كان اليهود يقدّمون عُشر ممتلكاتهم، وهكذا نحن نفعل إذ يقدّم كل واحد منا حياته. لذلك وضع لنا الآباء هذا الصيام، وكونهم يعرفون مدى كسلنا وخمولنا الروحي فلم يطلبوا منا الصيام لكامل السنة وإنما فقط لعُشرها كي يساعدنا ذلك في الابتعاد عن عاداتنا السيئة، واعتبروا بأن فترة الصيام هي فترة علاجية وهي ثمر روحي لنفوسنا.
إذاً علينا أن نقدم هذا العُشر إلى الله كما كان اليهود يقدمون العشور، وعلينا أن نحافظ على فترة الصوم بأكملها، كما وعلينا أن نكثف جهودنا أثناء فترة الصيام بأن نتوقف عن جميع أعمالنا السخيفة التي نقترفها خلال السنة. ونكرر تكثيف هذه الجهود خلال الصيامات الأخرى أيضاً مثل صيام الرسل وصوم العذراء مريم وصوم الميلاد، وذلك لأن الآباء القديسون قد وضعوا لنا هذه الصيامات.
نحن نكرِّم هذا الصوم الأربعيني أكثر من باقي الصيامات كونه يسبق آلام المسيح، وبما أن موسى صام أولاً أربعين يوماً وبعد ذلك أخذ لوحي الوصايا من الله وكذلك إيليا ودانيال وجميع الذين أرضوا الله صاموا، هكذا يظهر لنا الصيام بأنه عمل معاكس لما قام به آدم، لذلك ربط الآباء القديسون حادثة نفي آدم من الفردوس مع هذا الأحد الذي يسبق الصيام.