الاستعداد للمناولة
ديسمبر 29, 2023ملكوت السماوات للأب أليكسيوس رئيس دير كسينوفودوس
ديسمبر 29, 2023أنها لبركة عظيمة من الله، إذ جعلتنا محبته نجتمع في هذه الكنيسة ونصلِّي الغروب ونمجِّد مخلصنا الرب يسوع المسيح والقديسين الذين عظَّموا اسم الرب إما باستشهادهم أو بحياتهم، فنحن نستفيد من حكمتهم المستنيرة بنعمة الروح القدس التي أنعم بها عليهم.
هكذا علينا أن ندرس تعاليم قديسينا بخوف الله وإيمان ومحبة وأن نقتدي بهم، وأن نهتم بأن نحافظ على تعاليم الحق هذه في داخلنا حتى نستظل بها وتحمينا من سهام الشرير.
” في قلبي خبأت كلماتك حتى لا أخطىء إليك ” هكذا يعظ النبي، إن قلبنا هو مركز الأهواء ومنه تنبع الأحاسيس الصالحة والشريرة، “ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطيّة الكائن في أعضائي” (روميه 23:7).
ماذا يظهر هنا رسول الأمم القديس بولس عن الحرب الداخلية غير المرئية؟: “فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحيّة في السماويات” (أفسس 12:6)
وهكذا في كثير من الأحيان نلاحظ داخلنا جهاداً مختلفاً، حرباً بين النور والظلمة، بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الله والشيطان، ونحن نوجد في وسط هذه المعركة وبالتالي نجابه أفكاراً متعددة تُغرقنا أو تخنقنا، ليس فقط في اهتماماتنا اليوميّة ولكن حتى في لحظات عبادتنا لله، في صلواتنا وفي لحظات أعمالنا الصالحة، إذْ تراودنا هذه الأفكار الباطلة الشريرة كالأنانية مثلاً أو إدانة الآخرين أو أفكاراً انتقامية، فتدنِّسنا وتنزع القداسة من قلوبنا.
يتساءل الكثير من المسيحيين: “هل هذه الأفكار السيئة والشريرة نتاج أوضاعنا الشخصيّة؟”، لهذه الأسئلة نجد عند القديسين إجابات مستنيرة، فعلينا أن نتّبعها بكل جدّية كونها توصلنا لحياة القداسة.
في كثير من الأحيان تتسرب لذهننا الأفكار الشريرة من خلال الشيطان الذي يزرع بذاره الشريرة فينا بناءً على معرفته لنقاط ضعف كل واحد منّا، فيحاول أن يصطادنا بها كلٌّ بحسب مقياسه، فهو بناءً عليها يستطيع أن يعرف كيف نفكِّر وماذا نريد، لكن عندما يرى أننا منتبهون ومتأهبون للجهاد ضدّه وضدّ أفكاره ومحافظون على عيوننا بأن تبقى صالحة وعلى قلوبنا بأن تفيض بالمحبة، مع الصلاة المستمرّة حينها يفرُّ هارباً، وهكذا تُطرد الأفكار الشرّيرة وخصوصاً فكر الإدانة، وعندها ستملك على قلبنا الأفكار الإيجابية الصالحة التي لله. وفي هذا الموضوع أريد أن أذكر مقطعاً من تعاليم البار بورفيريوس الذي من كافسوكاليفيا والذي يقول:
“لدى الإنسان القوى المناسبة لنشر الخير أو الشر في محيطه، لذا علينا أن نرى كل شيء بطريقة صالحة، وألّا نفكر مطلقاً بالشر عن الآخرين وأن نزرع في نفوسنا الصلاح والمحبة، وأن ننشرها”
أنظروا إلى ماذا يشدد هذا البار، هذا ما يعظه الإنجيل المقدس لأن الرب يقول “سراج الجسد هو العين فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيِّراً وإن كانت عينك شريرة فجسدك كلُّه يكون مظلماً فإن كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كم يكون” (متى 22:6 -23)
كيف نحافظ على استنارة أفكارنا وبساطة عيوننا؟
نحافظ عليها عندما نرى أخطاءنا وتتوفر لدينا رؤية ذاتية ونعمل على إدانة ذواتنا ونبتعد عن إدانة الآخرين. لأن العلّة الأولى التي تُعطي الشيطان مبرّراً حتى يجرّبنا هي إدانة الآخرين، لأن الإدانة تدمِّر المحبة وتغذِّي الأنانية، وحينها نصبح من الهالكين بسبب الأفكار الباطلة والذكريات الشريرة.
والبار بورفيريوس أيضاً ينصحنا قائلاً: “مهما يفعل شريكنا الإنسان علينا ألا نفكر بالشر تجاهه وعلينا أن نصلِّي بمحبة ونفكِّر دائماً بالخير. أنظروا الى أول الشهداء القديس استفانوس كيف يتضرع الى الله عند لحظة رجمه من قبل أبناء أمَّته: “يا سيد لا تُقِم لهم هذه الخطيئة” كونه بهذا القول اقتدى بالمسيح الذي لم يُدِن صالبيه ولكنه قال لأبيه السماوي “يا أبتِ أغفر لهم لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون”.
تبدأ أفكارنا تعذبنا عندما نسمح لأهوائنا بأن تقودنا، ولا نطلب المساعدة الإلهية، وعندما لا نهمل هجمات الشيطان، ولا نتذكر في داخلنا ما قاله السيد للمجرِّب الشرير عندما جاء كي يجربه: “اذهب عني يا شيطان”.
لا يُقضى على الأهواء بسهولة لأن العدو لا يتوقف عن استدعائها، لذلك علينا أن نبقى ساهرين وأن نُهمل الأفكار الشريرة مُستدعين المعونة الإلهية التي ستريحنا من الحرب الذهنية.
يُظهر لنا القديس يوحنا كاتب سلَّم الفضائل أن جذر السم والأم الرهيبة، أعني الكبرياء، تلد الأفكار السيئة التي تقودنا في كثير من الأحيان إلى اليأس، وأحياناً إلى ضلالة تبرير الذات. الله الآب يُظهر لنا وبكل وضوح أن الأفكار التي تتعلّق بالكُفر ليست أفكارنا ولكنّها من الشرِّير، وعندما لا نضع لها حداً يأتي الشيطان ويبذر بذار الشرَّ فينا.
إن اليقظة والصلاة تحمينا من الأفكار الشريرة، فبحسب قول الرب “إسهروا وصلّوا كي لا يجرّبكم الشيطان”، لذلك يا أخوتي بقدر ما تطغى هذه الأفكار وتُلح، بقدر ما علينا أن نقاومها بالجهاد الروحي المستمر، وأن نَشغل أنفسنا دائماً بالكلمات الإلهيَّة كما قال القديس يعقوب أخو الرب “قاوموا إبليس فيهرب منكم” (يعقوب 7:4).
يُصِرُّ الشيطان على محاربتنا، ونحن نصرُّ على أن نبقى في الصلاة وأن نستمر في إهماله، وهكذا يبتعد الشيطان بواسطة السلاحين اللذين بهما يحارب المؤمنون، وهما الصلاة إلى الله والإزدراء بالشيطان.
وبالتوازي مع ما قلناه فإن معرفة الذات والتوبة تُفرح نفس الإنسان وتحرِّرُها من أسر الأهواء بنعمة الله. ولا تحاولوا أن تصارعوا الشيطان ببراهين، فلا يوجد حاجة إلى أي حوار مع الشيطان أو الاهتمام به، وإنما علينا فقط الازدراء به.
وكما قلت سابقاً إذا توقفنا عن محاكمة وإدانة قريبنا، عندها لا يستطيع العدو أن يقوى علينا لأن الأفكار الشريرة تهرب بالفكر المتواضع، وعندها تتنفس النفس نسيم الفداء الذي تهبه لنا النعمة الإلهية.
زار أحد الرهبان البار سيسوي يوماً وكان يَظهر عليه الحزن الشديد مشتكياً كيف أنه بكل جهاداته القاسية لم يستطع أن يتحرَّر من أهوائه، أجابه الأب القديس: “كيف ستتحرر منها يا بني ما دمت تحتفظ بآنيتها أي بالأفكار الشرّيرة، عليك أن تضع دوافع هذه الأفكار الشريرة خلف ظهرك عندها ستذهب عنك”. وما هي هذه الدوافع التي يجب أن نرميها وبذلك لا نعطي هذه الأفكار أي اهتمام؟ هي أن تصلي ببساطة وبدون اضطراب وأن تزدريها. وقال شيخ آخر حول هذه الأفكار الشرِّيرة: “ليس الإنسان هو المسؤول عنها، فلماذا يحتفظ بها ويوافق على تحمُّل مسؤوليتها؟”.
والأنبا يوحنا الكلوفوس كان يقول لتلاميذه: “عندما تحاربني الأفكار الشريرة أعمل كما يعمل عابر السبيل عندما يرى فجأة في الصحراء وهو سائر وحشاً ينوي مهاجمته فيتسلَّق الشجرة حتى ينجو، وهكذا أنا التجىء إلى الله بالصلاة وهكذا أَخلُص من تأثيرها”.
إن سبب أفكارنا هي أهواؤنا، وبالأحرى شرّ الشيطان الذي يرغب بأن يقودنا إلى اليأس. إن كلام الرب وتعاليم الآباء القديسين تنيرنا وتساعدنا على الخروج منتصرين من الحرب الآتية علينا من الأفكار الشريرة، وذلك بالصلاة والتيقظ والطاعة، وهكذا نقاد إلى تنقية قلوبنا الذي هو عطية الروح القدس بفعل الفضيلة عند المتواضعين.