الإيمان (1) لقدس الأرشمندريت أليكسيوس رئيس دير كيسنوفوندوس
ديسمبر 29, 2023القديسون أقمار الكنيسة الثلاث
ديسمبر 29, 2023“أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة وأعظمهن المحبة” (1 كو 13:13)
هكذا يشرح ويصف القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس الحياة الروحية والحالة المستقبلية في ملكوت الله السماوي، وهو أن الإيمان هو أساس الحياة الروحية، وهو الفضيلة الأساسية التي يُبنى عليها البناء الروحي لكل مؤمن. فالإيمان هو الذي يؤثر في كل طيّات الجهاد اليومي لأن الإيمان هو كمال الحياة الروحية.
وبحسب آباء الكنيسة فإن الله من بين عطاياه الكبيرة للانسان أنه هيأه بحسب صورته أي أنه مخلوق على صورة الله وعلى مثاله بهدف الوصول إلى مثال الله واعطاه الإيمان والمعرفة حول الوجود الالهي والرغبة في طلبه والوصول إليه كما يقول القديس يوحنا الدمشقي: “إن الله لم يتركنا في جهل كامل ولكنه هو الذي زرع فينا المعرفة حول وجود الله”. ويقول القديس اقليمس الاسكندري: “إن الإيمان هو بذرة طبيعية داخلية صالحة في الإنسان وهذه البذرة لا تطلب معرفة الله ولكنها تعترف بوجوده وتمجده لأنه موجود”.
ولكن عندما تخلّى الإنسان عن الله وأنكر محبته إذ اختار أن ينمو باستقلالية عنه. هذا مما استدعى الله خالق الجميع أن يتجسّد ويأخذ الطبيعة البشرية ويتألم من أجلنا “لكي تكون لنا الحياة ويكون لنا الأفضل” مظهراً للجميع الله الآب وإرادته بأن يعود الإنسان إلى مجده المفقود ويحصل على العلاقة المباشرة مع الله.
إذن الإيمان الصحيح هو علاقة الإنسان بالله. والإيمان الفاعل يظهر من خلال عمل الفضيلة. فالرب يسوع في تعاليمه التي بشّر بها على الأرض وبسبب المحبة الالهية للإنسان لم يدعُ الإنسان فقط أن يكون إنساناً أخلاقياً جيداً، ولكن أن يكون على مثال الله وأن يتحد به وهذا ينطبق على جميع الفضائل الإلهية العالية التي هي التواضع، التمييز، الطاعة والمحبة، هذه الفضائل هي التي تخلِّص وتكمِّل الإنسان وتهبه السلام لكل ما هو موجود في أذهاننا.
ومن الأساسيات المفروضة ليقوي الله إيماننا هو جهادنا الشخصي وعناؤنا، فالله يهبنا الإيمان الكامل به عندما نجاهد في تنقية قلوبنا بقدر المستطاع وهكذا نقتني الفضائل وعلى رأسها التواضع.
تشكّل فضيلتي النقاء والتواضع للقلب أساس جميع الفضائل وبالتالي الإيمان، ولكن عندما لا يجاهد الإنسان ولا يحارب أو يطرد أنانيته لا يمكنه أن يقبل يسوع المسيح إلهاً ومخلصاً له، وعندما لا يطرد الشر والحقد وحب مصلحته الذاتية والتردد في الإيمان والنفاق وحب القنية وحب الشهوة فلن يستطيع مطلقاً أن يتقبل تعاليم مخلصنا الإله الإنسان الخلاصية.
ظهرت في الآونة الأخيرة بداية نهوض لكثير من المشاكل والاضطرابات، والعالم بدأ يطلب المعونة ودخلنا في تجربة عمومية، البعض يسميها تدهوراً اقتصادياً والبعض الآخر يسمونها أزمة سياسية. ولكنها بالنسبة لنا نحن المؤمنين فهي بشكل عام تدهور روحي، لأن الابتعاد عن عمل الفضيلة هو البعد عن طريق الاتحاد بالله، ومهما تكاثرت الحلول المطروحة والآراء المسموعة لكن المشاكل باقية، لأن هذه الحلول والتوجهات قد تظهر لها نهايات لكنها تترك الإنسان في حالة عبوس وضياع ويأس لأنهم لا يستطيعون أن يَفْدوا الإنسان بل يتركونه مربوطاً بالفناء والموت.
ماذا قال الرب على فم يوحنا الرسول (1 يوحنا 4:5)؟ “وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم، إيماننا”
فالإيمان بالإله الإنسان (الرب يسوع المسيح) محرر نفوسنا هو الذي يهدئ الأمواج العاتية في حياتنا وهو الذي ينيرنا لنقبل الزمنيات كعطيَّة من الله، التي من خلالها لا تُحَل مشاكلنا فقط ولكن أيضاً تحوِّل الالام الناتجة عن التجارب إلى قوة الحياة وتكون سبباً لتمجيد اسم الله.
فالإنسان يجد راحته الشخصية وخلاصه عندما يضع كل شيء “وكلَّ حياتنا للمسيح الإله”.
إن قيامة ربنا يسوع المسيح التي هي تتويج لحياة السيد على الأرض، وهي أيضاً برهان إيماننا كما يقول بولس الرسول: “إن لم يكن المسيح قد قام فباطلةٌ كرازتنا وباطلٌ أيضاً إيمانكم”(1كور 15: 14)، وأيضاً: “وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلٌ إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم” (1كو15: 17) لأن قيامته شبيهة بقيامتنا من الخطيئة والموت وهي تهبنا الحياة الأبدية كما أن من خلال طبيعتنا البشرية في وجه يسوع الإله الإنسان نجلس مع الله في عرشه. وهذا يحدث عندما نتقدس بعمل الفضيلة وننتصر على التجارب التي تجابهنا بإيماننا بيسوع المسيح، وعندما نكرس حياتنا لمحبة الله. حينها ينمو في داخلنا تغيير داخلي مُبهر، وينمو فينا أيضاً تجلِّي عالمنا الداخلي ويتجلى معه ذهننا، وعندها ننقطع عن التصاقنا الأعمى بالماديَّات ولا نقتصر بنظرنا تجاه الآنيات، عندها نعلو بالروحانيات على جميع الأهواء ويتحرَّر ذهننا حتى نصل الى تجلِّي إيماننا وتجلِّي جهادنا الروحي، يساعدنا الاشتراك في أسرار الكنيسة والشركة الإلهية كثيراً في ذلك، وجميع الصلوات التي من خلالها تدخل فينا نعمة الله وتقدِّسنا وتهبنا الثقة والراحة الروحية.
في نهاية الحديث عن الإيمان وأساس هذه الفضيلة نستذكر جملة قالها القديس بوريفيريوس الذي من كافسوكاليفا: “كل من يحب قليلاً يعطي قليلاً، وكل من يحب أكثر يعطي أكثر، وكل من يحب كثيراً جداً ماذا يمكن أن يعطي؟ إنه يعطي ذاته”.
كل مؤمن مدعو من الرب أن يجاهد في حقل نفسه بحرية تامة وبمسؤولية وكرامة، والثمر الذي سنجنيه بعد الجهاد والتضحيات يعتمد بشكل مباشر على محاولاتنا وجهاداتنا التي نقوم بها.
نعطي الله إيماننا ومحبتنا وثقتنا ورجاءنا والله يعطينا بسخاء نعمته الإلهية والفرح والسلام الداخلي والمكافأة، كما أنه يقف معنا بقوته في أصعب المواجهات الخارجية التي تواجهنا ونجابهها بمؤازرته.