ملكوت السماوات للأب أليكسيوس رئيس دير كسينوفودوس
ديسمبر 29, 2023الإيمان (1) لقدس الأرشمندريت أليكسيوس رئيس دير كيسنوفوندوس
ديسمبر 29, 2023في داخل كنيسة المسيح كأشخاص مكرّمين فيها، نحيا سر المناولة ووحدة الإيمان ورجاء الخلاص والمحبة الأبدية، ونحيا أيضاً رجاء الحصول على الخيرات المستقبلية.
الإجتماع اليوم الذي تم باسم الرب يعبّر عن شغفنا المقدّس لأن نتقدّس كأعضاء جسد المسيح كشركة إيمان ومحبة.
تشكِّل المصالحة مع الله أساس الحياة في المسيح، والتي تتوَّج بكمال المحبة والتي تغذينا وتحرّرنا من الخوف، وهي التي تؤمّن لنا الحريّة كأبناء لله.
نتلقى في عالمنا المعاصر باستمرار أحداثاً تتحدّانا وأخباراً تشعل الخوف بداخلنا وتزرع فينا الشعور بالتشاؤم وعدم الاستقرار وعدم الأمان، فيخيب أملنا ونشعر بأنه ليس لدينا مخرج ما، وأما نحن بدورنا فنقوم بمحاولات جادّة لرمي أجهزة سلامتنا (الإيمان والرجاء والمحبة) بالرغم من أنها هي التي تخلّصنا من الغرق، فنبقى مطروحين في أمواج اليأس بدون مساعدة. للأسف لقد استطاع الشر أن يسبب إرباكاً في ذهننا وعدم الثّقة في قلوب عدد كبير من أخواننا في الإنسانية، مما ضاعف عدد العُقد في اليائسين والمحزونين. إنَّ وطننا كما والعالم اليوم موجود أمام مصير انهيار القيم الإنسانية بسبب المشكلات الأخلاقية والاقتصادية التي تنامت بسبب ابتعادنا عن قيَمنا الروحية وطريق الحياة الأبدية التي أظهرها لنا الرب يسوع المسيح إلهنا، فأصبحنا لا نحترمها، لذلك سمح بها الله وتراجع قليلاً، ليس من أجل أن نفنى ولكن من أجل أن نكتشف ونعترف بأخطائنا وأهوائنا، وأن نصحّح مسيرة جشعنا وطريقة تفكيرنا وغطرستنا وأنانيتنا، فنصلح حياتنا التي تسير عكس تعاليم الإنجيل.
نتيجةً لإنفطامنا من روح الفرودوس حصل سقوطناً الرهيب وبدأنا نعاني، فلبسنا الفقر والحرمان وغرقنا في اليأس والاكتئاب بكل نتائجهم السلبية، فخضعنا لحالة من العقم الروحي المنظَّم الذي يجعل تفكيرنا في كثير من المرّات استهلاكياً وفلسفياً أنانياً، وفي حالة من المدنية السّهلة وبدون منفعة، مما يصرفنا بعيداً عن العادات الصادقة التي تميِّز مسيرتنا الأرثوذكسية، وبالنتيجة نجد أنفسنا نلملم أجرة إنحرافنا.
كل هذا المشهد السلبي المحزن والمؤلم الذي يسيطر على أهوائنا نشأ نتيجة سلوكنا في الحياة ضد تعاليم الإنجيل، فأصبحنا نواجه أنواعاً من العثرات التي تَظهر لنا في كلِّ مكان كما سبق وقلنا، وهذه بدورها تحقِّر وتقلِّل من قيمة الحقائق الصافية لجنسنا، فتحمل لنا أمثلة من الإلحاد وثقافات وأساليب تربية غريبة. إن إبتعادنا عن المبادى الأبدية للإيمان وللإنسانية الحقيقية جلبت إنهياراً لقيمة الأخلاق التي تزيِّن الحياة وتزيِّن الحضارة وطريقة التصرّفات الإجتماعية، وبعدها جذبت شعبنا للفقر الأخلاقي والمادي معاً.
ولكن هل يكفي أن نشخِّص أسباب انحطاطنا دون معالجة وسائل التخلص من أهوائنا؟ فهل سنبقى مطروحين في براري اختياراتنا الخاطئة؟ يوجد نور! نعم، إنه نور المسيح الذي ينهي ظلمة الخطيئة، هذا النور الذي يقود الى المحبة الخلّاقة والمبدعة، التي تؤمن بذلك الشخص المطوّب (القدّيس) الذي يأخذ مما لله ويعطي العالم، والذي يؤمن بعبارة “أحبوا بعضكم بعضاً”. المحبة التي لا تطلب ما هو لها بل ما هو للآخر، والتي تؤمن بقول الرب “من له ثوبان فليعطِ لمن ليس له” وتؤمن أيضا بالتطويبات “طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون” وتؤمن أيضاً بحقائق وبعِظات إلهية أخرى.
لا مانع من وجود بعض الأزمات في حياتنا أو حالات مرهبة، علماً بأن هذا طبعاً غير مرغوب به، لكن إذا وُجِد التضامن والمحبة فإنهما سيعملان فينا وستكون النتائج مبهرة، وستتوقف كل هذه الأزمات أمام الإنجيل الذي هو ينبوع الحياة، لأن المحبّة تتوحَّد مع الله، فالذي يمكث في المحبة يمكث في الله “المحبة تحتمل كل شيء، المحبة تصدِّق كل شيء وترجو كل شيء”. لذلك فعندما تسيطر علينا هذه الفضيلة حينها ستتوقف فينا سيطرة عبادة المال، وستتوقف الأنانية، وبعدها ستظهر وسائل السعادة والغنى الحقيقي والكنز الذي يبقى الى الأبد بواسطة علو المحبة والعطاء والتضحية. كي نعرف سر الشفاء من التشاؤم الذي يطرق أبوابنا كمرض نفسي، علينا أن نتقرَّب الى أحد القدِّيسين الذي تحمَّل بحياته الكثير، ونتعلَّم من حياته كيف ينتصر من خلال الرجاء والإيمان بالإله الحي.
سنتكلم بهذا الخصوص عن القديس نيقولاوس أسقف أرخيذوس الذي عاش في القرن العشرين في سجون مرعبة ومخيفة تحت الحرمان والإساءات حتى اقترب من الموت، لكنه بقي صامداً ومتفائلاً وسط الضيقات التي لا تليق به. هنا تظهر النعمة الإلهية التي تمنح الرجاء، فبالرغم من أنه عاش في حالة جحيم مأساوي مُهلك، إلا أنه ومع ذلك فهو يكتب عن التفاؤل بأنه “يشكّل تاج الفلسفة المسيحية”، وهو أيضاً “تاج تاريخ المسيحية”.
لقد كان مؤسِّس المسيحية (الرب يسوع المسيح) متفائلاً، فهو أكثر شخص متفائل في العالم، وبقي متفائلاً حتى عندما هجره الجميع. وكان يصلِّي الى الله في تلك الليلة قبل أن تبدأ التراجيديا، وكان متفائلاً أيضاً حتى عندما كانوا يقودونه من هيرودوس الى بيلاطس وحتى عندما وضعوا على رأسه إكليل الشوك وعندما ثقبوا بالشوك رأسه، وأخيراً عندما شرب كأس المرّ وعندما صعد الى الجلجلة أيضاً بقي متفائلاً.
كما أن المسيحيين أيضاً كانوا متفائلين عندما كانوا يستشهدون، وكانوا متفائلين أيضاً أولئك الذين كانوا في السّاحات الرومانية لمجابهة الوحوش ليتسلى عليهم القيصر، وكانوا متفائلين أيضاً أولئك الذين كانوا يحترقون بالنار في الساحات وكانوا يُربطون في الدواليب، والذين جرّوهم في الشوارع وأيضاً أولئك الذين دُفنوا في الأرض وهم أحياء.
كيف لنا بعد كل هذا أن نصير متشائمين؟! كان شهداء المسيحيّة أثناء حرقهم بالنار يصرخون “نحن نؤمن وسنبقى مؤمنين”، وهؤلاء الذين كانوا يُمزَّقون بين أنياب الحيوانات كانوا يقولون: “نحن أصحاب الرجاء”، وأولئك الذين كانوا يُعلَّقون على الصُّلبان كانوا يبكون بنحيب ولكنهم كانوا يقولون: “نحن لا زلنا نحبكم”.
إن أولئك الذين كانوا يُركلون -من قِبل المضطهِدين- وكأنهم حجارة مبعثرة، لكنّ الله الخالق لملمَ هذه الحجارة وبنى بها أساس كنيسته.
تشكّل كنيسة المسيح أكبر بناء للتفاؤل يمكن أن يُبنى على الأرض، فالمسيحية تشكِّل أكبر قلعة للتفاؤل. المسيحيّة مبنيّة على: الإيمان والرجاء والمحبة، لأن هؤلاء الثلاثة فقط بإمكانهم أن يخلّصونا، فالإيمان والرجاء والمحبة معاً يشكّلون التفاؤل، وهذا التفاؤل هو فقط الذي يخلِّصنا، وبدون التفاؤل نصبح جميعاً مقعدين.
لقد صنع الله كل شيء بحكمة، فالمتفائل تسطَع كل يوم أشعة الشمس على وجهه فتدفئه وتنير نفسه، أما وجه المتشائم فيبقى بدون شمس ونتيجةً لذلك تبقى نفسه باردة ومظلمة، الأول يرى الورود كل يوم أما الثاني فيرى مرمى النفايات، لا يمكن أن يوجد أي من الخليقة بدون التفاؤل، هذا ما كتبه القديس نيقولاوس أسقف أرخيذوس في مقالته حول التفاؤل.
أيها الإخوة
يهتز مجتمعنا من أساساته، وذلك بسبب الهزّات الذهنية كالضيقات الإقتصادية والفقر واللامبالاة والظلم والتهميش الذي يحيط بنا ويضغطنا بشدّة. كل يوم تظهر غيوم جديدة تُثقِل كاهل آفاقنا الإجتماعية والعالمية، فيشعر المؤمن بالإحباط أمام الطرق المسدودة التي تغلقها قوى الظلام أمامنا. لكن حتى ننقذ إيماننا من التشاؤم، علينا أن نؤمن بوجود الله خالق العالم الذي يُمطر على الصدِّيقين والظالمين، ويُشرق شمسَهُ على الأشرار والصالحين، وأن نؤمن أيضاً بأن هذا الخالق هو أبونا. هذا الفكر يجب أن يكون أساس تفاؤلنا. فكل بذرة حين تُزرع فإنها تخمِّج أولاً ثم تنمو وتصبح وردة، وهكذا نحن أيضاً فبموتنا يتعفّن جسدنا ولكننا ننمو في الحياة الأخرى أي في الأبدية، وذلك لأننا أبناء لأبٍ لا يموت، لذلك نصير خالدين. أنظروا إذاً لتجربتنا الحالية إنها نوع من أنواع الموت، ولكننا إن فهمنا وآمنّا أن هذا الإنسحاق الذي اضطررنا لنحياه قد صار بسماح من الله بهدف عودتنا وتنقيتنا، كي ننمو بتوبة مستحقة وننمو بالصّبر وبالمحبّة، فبالنتيجة تصبح هذه التجربة التي واجهتنا هي مصدر بَرَكة لنا.
لنكن دائماً متفائلين وقت الأزمات كونها تكون دائماً في محلّها، فهي ليست بدون سبب وإنما عذاباتنا هذه هي عبارة عن الأجرة التي ندفعها عوضاً عن الدَّين الذي صار علينا بسبب خطايانا.
علينا أن نتفاءل كوننا مسيحيّين، فالمؤمنون الذين تعذَّبوا قد نالوا من الله تعزية أكثر من الذين لم يتعرّضوا لأنواع العذابات.
إن رسالة التفاؤل هذه هي رسالة حياة وخلاص، إنها صوتٌ إنجيلي يدعونا لأن نقترب من الذي فدانا من ثقل وعناء هذه الحياة. لنكن متفائلين، لأن التفاؤل هو دواء الحزن وهو ينبوع الفرح الحقيقي والأبدي. ليس التفاؤل شيئاً غير موجود أو غير واقعي، لكنَّه تعبير عن الإيمان والرجاء في الله الحي الذي أعطى الكون الابتهاج وحلَّ ظلمة الضلال والشّك.
إذا تفاءلنا وحقَّقنا أعمالا حقيقية، حينها نستطيع أن نقدّم لمحيطنا الرجاء والرؤية الصحيحة. عندما نقدّر نعمة الحياة التي أعطانا إياها الله، فنكرّمها ونقدِّرها ونمجّدها عن طريق عيشنا بتفاؤل وفرح وصبر، حينها تمُرُّ حياتنا بأمور جيدة ونحصل على أشياء لم نكن نتوقعها.
أمّا من الجهة المقابلة فإن المتشائم يرى الحالة الكئيبة لليأس، هذه هي قوى الظلام، ومهما حاولت الأفكار المنطقية أن تحصر أفكارنا في اليأس وعدم الرجاء، فإن النفس التي تؤمن بالله تصبح قادرة أن تتجنب وتنجو من الأبواب المغلقة، وهكذا يعطينا الفكر المتفائل ثلاث فضائل :
الصبر وحب الحياة ولكن أيضاً التضحية. هذه النفس لا يمكن أن يخترقها اليأس، أما حياة الإنسان اليائس فهي متهوِّرة ومؤلمة ومظلمة خالية من النور والرجاء والمحبة، ومليئة بالحزن والقلق كما أن اهتماماتها بلا هدف. تُظهر لنا ظروفنا الحالية أسباباً كثيرة تدعو لليأس فتعطي حياتنا شيئاً من السلبية وتُميت فينا الرجاء. هكذا علينا أن نفهم اليأس، فهو حياة بها عِناد وبدون استقرار، وهو أيضاً مستنقع يغرق فيه الإنسان الكسول، فيقتل الذهن ويطفيء فيه أي أمل أو رجاء للخلاص.
بعكس ذلك فإن التفاؤل هو قوة الحياة والخَلق، فالمتفائل هو الإنسان الذي يعمل وفي قلبه إيمان ورجاء وصبر. لقد رأيت قبل عدة أيام في سالونيك أحد معارفي ضباط الشرطة، حيث كان يبيع كعكاً، فاستغربت وتساءلت، واقتربت منه وسألته ولكنه أجابني بهدوء بأنها احتياجات العائلة كون لديه عدد كبير من الأبناء، “فأجبرتني احتياجاتهم أن أجد أي عمل إضافي، لذلك أيها الشيخ فالعمل ليس عيباً” -أجابني وبكل هدوء-.
وهكذا فإن الإنسان المتفائل يخلق الفرص ويعمل ويتقدم، فكل هذا التحضُّر والمدنيّة التي نراها في يومنا الحاضر قد تكوّنت من جهود أناس متفائلين وعاملين بجِد، وهكذا تقدّموا في عملهم. إن استسلامنا لروح اليأس ومناخه يشكِّل المصدر السام للشر دون قياس مما سيورِّط الإنسان بصفة شخصيَّة والمجتمع ككل. سأنهي كلامي بسرد حَدَث كتبَه القديس نيقولاوس أسقف أرخيذوس في إحدى مقالاته:
” عرفتُ إنساناً مقعداً مملوءاً بالتفاؤل استطعت أن أراه بأُم عيني وأدركه، وقد كان جندياً جُرِحَ في الحرب بواسطة طلقة عدو اخترقت جسده وجرحته قرب وسطه. دعاني يوماً لزيارته، فدخلت إلى غرفة كانت شِبه مظلمة، وكان هناك كرسي كبير مع ظهر جانبي قرب الشبَّاك حيث كان رجلنا هذا جالساً عليه، فنظر إليّ ودعاني وقال: “إني أجلس هنا وأراقب الحياة من النافذة منذ الصّباح وحتى المساء، وأحياناً منذ الصباح ولغاية الصباح التالي. “أتعرِف؟ لو وُجٍدَ أنسانٌ في بئر فارغ، وكان يراقب السماء من هناك في النهار والظهيرة، هل سيرى نجوم السماء؟ هكذا أنا، أراقب الناس من هذه الغرفة شبه المظلمة وأراهم كالنّجوم اللامعة، يضيئون ويتحرَّكون بشكلٍ دائري ومستمر، لكنني لطالما اضطرمت فيَّ زوابع الحياة، لم أكن أستطيع أن أدرك كم أن الحياة جميلة بهذا المقدار وبهذه العذوبة، ولكن منذ أن فقدت رجليَّ ربحت عيني، نعم أرى أن هذه الحياة -منذ أن جلستُ على هذا الكرسي- أصبحت جميلة في عيني، ومليئة بالأمور المنسجمة.
ليس المرض شرّاً كبيراً أو صغيراً ولا الموت أيضاً، فبالرغم من أنني لا أشعر برجليّ مطلقاً، وبالرغم من أن رجليّ لا تستطيعان أن تحملاني، بل أنا أحملهما، إلا أنه يوجد من يدعمني مثلما أدعم أنا رجليّ المقعدتين. ولو لم يوجد هذا الشخص الداعم لي، لكنت الآن مشلولاً بالكليّة، فالذي يشدّدني هو الشعور الداخلي لروحي بالتفاؤل. لقد كانت نفسي مُقعَدة لوقت طويل، وكانت رؤية نفسي الداخلية مقعدة أيضاً، لأنني لم أكن أستطيع أن أرى جمال ومعنى هذه الحياة.
كانت نفسي تحوم في الظلمة، وكان العالم يبدو لها بأنه مظلمٌ، وكانت نفسي تكرِّس كامل قوَّتها ونشاطها للخضوع لعبوديّة الجسد، وكان جسدي يسحب نفسي خلفه، أمّا نفسي فكانت ترقص وتتحرك في الغُبار والوحل لأنها كانت دائماً تابعة للجسد وطائعة لإرادته.
كنت أملك الصحّة الكاملة، لكنّي لم أكن أشعر بها، كان لي عيون ولكني لم أكن أبصر. وأما أشعة الشمس فبالرغم من أنها كانت تلامسني فرِحةً إلّا أنني كنت أتهرّب منها ولم أكن اراها، كانت النجوم تراني وأما أنا فكنت أخافها. كنت كالفأر الأعمى الذي إذا أخرجه إنسان إلى الضوء ركض هنا وهناك خائفاً. كنت أحرث الأرض حتى أهرب من الشمس وأختبىء في الظلمة تحت التراب.
أشكَر الله على هذه الحرب التي صارت، وأشكر الله الذي سمَحَ للعدو بأن يجعلني مقعداً بهذه الطريقة. إنّني أعتبر هذا العدو أكبر مُحسنٍ لي. نعم لقد فقدت رجلي لكني ربحت روحي، كم هي عظيمة حكمة الله! فهو يستخدم أحياناً أكثر الوسائل قسوةً من أجل خيرنا. أنا قدمت رجليّ لنفسي التي كانت مُقعَدة، ولو تعلَموا كم هي النفس أغلى ثمناً من الأرجل.
منذ أن جلستُ على هذا الكرسي أراقب العالم من النافذة، بدأتُ أرتِّب أفكاري وأحاسيسي، فلمدة طويلة من الزمن كانت أفكار الفوضى تسيطر على رأسي. فالإنسان يجيد الإنسجام في حياته وفي العالم فقط عندما يجده في داخله، وأما هذا الإنسجام الداخلي فقد وجدته الآن وأبعدتُ الفوضى والخوف من داخلي. ففي القديم كنت أشعر بالخوف حتى ولو من مرض الزكام البسيط، أما اليوم فبالرغم من وجود رجلين مقعدتين بقربي واللَّتين كانتا من الأعضاء الأساسية في جسمي، إلا أنّني الآن لا أخاف البتَّة. لقد حدث انقلاب في نفسي، فبالرغم من أن شكلي الآن أصبح أقبح، لكن العالم صار لي أجمل. وعندما ينتابني الحزن يكون حزني ليس من هذا العالم وإنما عليه.
هذا التفاؤل الذي وصفه لنا أحد المقعدين يقول لنا من خلاله الكثير، وكوننا جميعنا نتعرّض كثيراً أو قليلاً لأنواع مختلفة من التجارب، فإنه ينبغي علينا أن نأخذ من نفوس هؤلاء نوراً وقوةً كونهم يحملون صليب التجارب بإيمان ورجاء وصبر، وهكذا سنبقى واقفين وسننتصر حتى ولو كذّبنا جميع من حولنا.
سينتصر دوماً الإيمان والرجاء والمحبة. علينا أن نسهر مصلّين والله سيكون معنا، هذا هو ينبوع قوة المؤمن الذي لا ينضُبْ، الروح الساهرة والصلاة القلبيَّة التي يتسلّح بها المؤمن تبعد عنه عواصف هذا العالم، الذي لسوء الحظ يسكن فيه الشر، ولكن بالذهن الصاحي اليقِذ والفكر العفيف والقلب المستعد يستطيع المؤمن أن ينتصر على كل التجارب وينتصر أيضاً على روح اليأس، ويصبح حاملاً للرجاء وللسلام، كما ويصبح قادراً على حمل الخليقة كلّها.
نطلب إلى الله متضرّعين بأدعية وصلوات جبل آثوس بأن يبدّد عنّا جميع قوى اليأس، وينيرنا بنور المعرفة الإلهية، فنصلِّي بإيمان ورجاء الى العناية الإلهية وإلى المحبة الأبدية لسيدنا يسوع المسيح.
آمين