
مجلس كنائس الشرق الأوسط ينظّم حلقة استشارية حول نهج الترابط بين العمل الإنساني وبناء السلام في الأردن
سبتمبر 22, 2025
توقيع اتفاقية مع جامعة الاميركية
سبتمبر 24, 2025
إنّ سرّ الزواج المقدّس في الكنيسة الأرثوذكسية ليس مجرّد عقد اجتماعي يربط رجلًا بامرأة، ولا هو اتفاق بشريّ قابل للنقض أو التعديل بحسب تقلبات المزاج أو الظروف، بل هو اتحاد روحي–جسدي، مؤسس على المحبة الإلهية، ومختوم بختم الروح القدس، حيث يجعل الربّ الاثنين واحدًا في الجسد والروح والقلب والفكر، ليكونا معًا صورة حيّة لاتحاد المسيح بكنيسته، وأداة خلاص متبادلة، وشريكين في عمل الله الخلاصي على الأرض. فالعائلة المسيحية، في فكر الكنيسة، هي كنيسة صغيرة، بيتها مذبح، ومحورها المسيح، وجوّها النعمة، وأركانها المحبة والاتضاع والصبر والأمانة. إنها ليست مؤسسة اجتماعية، بل موضع شركة، حيث تُعاش فيها المحبة لا كشعور عابر، بل كقرار يومي، وجهاد دائم، وصليب يُحمل بفرح.
غير أنّ هذه الكنيسة الصغيرة تواجه في أيامنا رياحًا عاصفة: ضغوط اقتصادية خانقة، واختلافات فكرية واجتماعية، ومؤثرات خارجية تحاول أن تقتحم قدسها الداخلي، مهددة وحدتها واستقرارها. وهنا يظهر دور الزوجين الحقيقي: أن يتشبثا بالله أولًا، وأن يتركا النعمة الإلهية تقود حياتهما من خلال الصلاة المشتركة، والمناولة الإلهية المنتظمة، وحفظ سرية البيت، وصون العهد بالأمانة المتبادلة. فحين تتقدس الحياة الزوجية بالنعمة، تتحول الخلافات إلى فرص للنمو، والتجارب إلى أسباب للتقوّي، والضعفات إلى مداخل للاتكال على قوة الله.
بناتي وأبنائي الأحباء:
أريد لكم أن تعرفوا وتثقوا بهِ أنَّ المحكمة الكنسية، ليست ساحة صراع قانوني، بل ذراع رعوي–أبوي للكنيسة، مهمتها الأولى حماية العائلة لا تفكيكها، وإقامة العدالة الإلهية لا العدالة العالمية. وكما قال القديس باسيليوس الكبير: “القوانين لم توضع إلا لغياب المحبة”. لذلك، فالمحكمة الكنسية، وهي تحمل سلطان الكنيسة، مدعوة أن تنظر إلى روح القانون لا إلى حرفه فقط، وأن تقود الأطراف المتخاصمة إلى التوبة والمصالحة ما أمكن، قبل أن تحكم بفسخ ما جمعه الله. رجائي أن اذكَّروا دائمًا، أنَّ الزواجُ مسؤوليَّةٌ مشتركة. كلٌّ منكما مدعوٌّ أن يحمل الآخر، أن يغفر له، أن يسندهُ في ضعفه. الزواجُ المسيحيّ ليس أن يبحثَ كلُّ طرفٍ عن راحتِه، بل أن يبذلَ كلٌّ منكما ذاتَهُ من أجلِ الآخر، كما بذلَ المسيحُ نفسَه من أجلِ الكنيسة.
فالاحترامُ الصادق، والحوارُ البنّاء، هما أعمدةُ البيت المسيحيّ. والاختلافاتُ لا بدَّ أن تأتي، لكنَّها لا تكون سببًا للانقسام، بل فرصةً للتكامل، إذ يُغني الواحدُ الآخرَ بموهبتِهِ ورؤيتِهِ. لِذا ابنائي ارجو ألا يتحوَّلَ الزواجُ إلى صراعِ مصالحٍ بشريَّة. فالزواجُ ليس ميدانًا للأنانيَّة، بل مائدةُ عطاءٍ وتضحية. وإنَّ كلَّ قرارٍ صغيرٍ أو كبيرٍ في العائلة – من تربيةِ الأولاد، إلى إدارةِ المال، إلى تنظيمِ شؤونِ الإرث والميراث – يجبُ أن يكون ثمرةَ صلاةٍ ومشاورةٍ واتِّفاق، لا نزاعٍ أو خصومة. فالكنيسةُ تُذكِّر دائمًا أنَّ المالَ والأملاكَ ليست غايةً، بل وسيلةٌ لعيشِ المحبَّةِ وخدمةِ الأسرةِ والآخرين. وإنَّ تقسيمَ الإرث، أو إدارةَ الأموال، أو أيَّ شأنٍ مادّيٍّ، ينبغي أن يتمَّ بروحِ الإنجيل، لا بروحِ العالم، ليبقى البيتُ في وحدةٍ لا في انقسام. فقدسيَّة العائلة تكمن في المحافظة على الوحدة، وأن تتمسَّكوا بهذا السرِّ مهما قست الظروفُ، لأنَّ اللهَ هو الشاهدُ على عهودِكم. فلتجعلوا بيوتَكم كنائسَ صغيرة، حيثُ الكلمةُ تُعلَن، والصَّلاةُ تُرفَع، والمحبَّةُ تُترجَم في خدمةِ بعضِكم بعضًا، وفي تربيةِ أولادِكم على مخافةِ الله ومحبَّةِ الوطن والكنيسة.
رجائي منكم، قبل أن تسلِّموا مصير عائلتكم إلى المحامين، سلِّموه للمسيح. وقبل أن تضعوا مشكلتكم في يد القانون، ضعوها عند أقدام المذبح. اذهبوا إلى أب اعترافكم، وافتحوا قلوبكم أمامه.
وإن تعذّر الحل، فمن محبتها أنشأت الكنيسة “بيت العائلة المسيحية”، وهو بيت كل واحد منكم، فيه من يساعدكم على حل خلافاتكم وجذورها، والسعي بحرص وبمخافة الله لتقريب وجهات النظر بعيدًا عن الانحيازات الشخصية. فيه تجدون مختصين وإرشاديين: روحيين، نفسيين واجتماعيين. دورهم هو مساعدتكم بشتى الطرق على التوفيق. وإن تعذّر الإصلاح، فتعالوا إلى المحكمة الكنسية بأنفسكم مباشرة، وهي سترشدكم حفاظًا على سلامة بيتكم، فالكنيسة تفتح أبوابها للصلح قبل أن يُكتب أي حكم، فإن كثيرًا من النزاعات، حين تُعرض على نور الإنجيل، تذوب كما يذوب الثلج تحت شمس القيامة.
هنا، أرفع صوتَ التحذيرِ بلسانِ الكنيسةِ الأمِّ: كم من بيوتٍ كان يمكن أن تُشفى بالاعترافِ الصادقِ أمامَ اللهِ، أو بجلسةٍ روحيةٍ مع الأبِ الكاهنِ، تحوَّلت إلى ملفاتَ متضخمةٍ في أروقةِ المحاكمِ، لأنَّ الزوجين لجآ مباشرةً إلى المحامِين. بعضُ المحامِين – وليس جميعُهم – يسلكون بمنطقِ الرّبحِ الماليِّ لا بمنطقِ الإصلاحِ، فيضخِّمون الخلافاتِ، ويزرعونَ الشكوكَ، ويحوِّلون جراحَ القلبِ إلى قضايا على الورقِ. العائلةُ ليست نزاعًا على ممتلكاتٍ ولا حساباتٍ، بل سرٌّ مقدّسٌ بحضورِ الله الديان. وكثيرون يشوهون صورة المحكمةِ لاهدافٍ خاصةِ تخدمُ مصالحهم، أُريدكم أن تعرفوا أنها لا تقاضى ألوفاً فرسومها واضحة على مدخلها وما زاد عنه لا علاقة لها بهِ ولا يدخلُ إليها. فالمحكمةُ الكنسيةُ، في جوهرِها، هي صوتُ الكنيسةِ الداعي إلى التوبةِ والمصالحةِ. إنها مكانُ شفاءٍ، تدخلُ إلى أعماقِ الجرحِ لا لتقطعه، بل لتضمدَه.
أبنائي وبناتي الأحباء:
أشعرُ معكم وما تتعرضون لهُ ولكنني أوصيكم برجاءٍ وبمحبَّةٍ أبويَّة أن تحافظوا على كيانِ زواجكم قائماً، كما حافظَ المسيح على الكنيسةِ. وإن لم تتمكنوا من الاستمرار في مسيرة الزواج، فليكن قرار الانفصال محمولًا بروح الإنجيل، ومشبعًا بالمحبة والاحترام. لا تحملوا أبناءكم ثقل خلافاتكم، ولا تزجّوهم في معارككم، بل حصّنوهم برؤية تحفظ صورة كل منكما في قلوبهم. ليعرفوا أنكما – وإن افترقتما كزوجين – بقيتما متّحدين كأبوين في المحبة، حريصين على مستقبلهم وكرامتهم. فهم ثمار الحُبِّ، ووجودهم شهادة حية على أن الزواج ليس علاقة فردية، بل سرّ يتجاوز الزوجين ليشمل الأجيال القادمة. فلا تجعلوا من ضعفكم حجة ليأس أبنائكم، بل اجعلوا من محبتكم لهم – حتى في انفصالكم إنَّ حدثَّ – دافعًا للثبات على الحق والوفاء للعهد.
إخوتي القضاة في محكمتنا الكنسيَّة:
من هنا أردتُ أن أتوجه لكم بمسؤوليَّة أن تدركوا عُمقاً أنكم لستم مجرّد مفسّرين للقوانين وعاملين في تطبيقهِ، بل أنتم حماة لسرٍّ مقدَّس هي عائلة المسيح. رجائي بحزمٍ أن اضبطوا جلسات المحاكمة بروح الإنجيل، ووجّهوا قراراتكم أولًا إلى خلاص النفوس قبل ترتيب الملفات. أصغوا إلى الزوجين مباشرة، تواصلوا معهما بروح أبويٍ، ولا تسمحوا لأي تدخّل خارجي أن يمسّ خصوصية حياتهما دون إذن القضاء. ولا للمماطلةِ في الإجراءات القضائية، مما ينعكسُ سلباً على حياتها وسلامها، احملوا بصرامة رعوية مسؤولية محاسبة كل من يطعن في قدسية المحكمةِ أو يعبث بسلام البيت المسيحي، وتذكروا أن الحرف يقتل، أما الروح فيحيي، وجهوا الجلسةَ حيث يريد الله لا الإنسان وحرفية القانون بجفافهِ، فإنَّ وِحدةَ وخلاص عائلة واحدة أمام الله أثمن من أي انتصار قانوني أرضي. لأنكم بذلك تحفظون جسد المسيح من الانقسام.
الأحباء الإخوة المحامون:
رجائي أن أحبوا الله واتقوه في نفوسِ إخوتكم، لأنكم ستُسألون أمام عرش الديّان عن أمانتكم فيما أوكلكم إليه الناس. إن الزواج ليس ملفًّا قانونيًا ولا قضية ربح وخسارة، بل هو عهد مقدس بين شخصين أمام الله، وأنتم إما شركاء في خلاصهما أو أدوات لهلاكهما. لا تجعلوا من النزاعات الزوجية مادة للربح المادي أو وسيلة لتوسيع الشرخ بين القلوب. لا تكبّروا الجراح ولا تزيدوا التعقيدات، بل كونوا جسرًا نحو السلام، وصوتًا يذكّر الأطراف بأن هناك نعمة قادرة أن تجدّد ما ظن الناس أنه قد مات. ولكي تكونوا أنتم هكذا صيروا أولا مع الله فتكونوا لهم إخوة لا مدافعين بالمالِ. فاحذروا أن تُلقى منكم العثرة، لأن من يزرع الشوك في بستان العائلة يحصد نارًا في يوم الدينونة.
الأهل الأحبّة،
برجاءٍ أبويٍ صونوا خصوصية أبنائكم بعد زواجهم، واتركوا لهم المساحة الكافية ليتعرّفوا إلى بعضهم بعمق، ويكتشفوا طباعهم بعيدًا عن إسقاط آرائكم وأحكامكم. أنتم تعرفون أبناءكم بميزان العاطفة، لكن الزواج لا يقوم على العاطفة وحدها، بل على الحب الممزوج بالمعرفة، وعلى وحدة الفكر التي تولد بعد عبور جسر الاختلاف.
لا تنصحوا بما تعرفونه أنتم عنهم، فمعرفتكم وليدة زمنكم وتجاربكم، وحياتهم اليوم تحمل سياقًا مختلفًا. ليجد كلٌّ منهما في الآخر الأمان والاحترام والتقدير، فأبناؤكم، حين يتزوّجون، لا يعودون ملكًا لكم بل يصبحون أمانة في قلب شركائهم. إن أدركتم أن شريك ابنتكم أو شريكة ابنكم هما ابنكم وابنتكم بالروح والمحبّة، وتعاملتم معهم على هذا الأساس، استمرت الحياة في سلام. لا تقفوا مع أبنائكم بعاطفة تعمي البصيرة، بل بعقل راشد ومسؤولية متجردة من الأنانية، لتمنحوهم الفرصة أن يشقوا طريقهم بالصبر والجدّ. أطلقوهم أحرارًا في فضاء المحبة، فالمحبّة ترفع الإنسان وتحييهِ، أمّا العاطفة المفرطة فتقيّده وتُمِيتهُ.
أيها الأحباء، إن الكنيسة إذ تخاطبكم اليوم، فإنها تفعل ذلك بصوت الأم التي تتمخض على أولادها وهم على حافة الخطر. هي لا تسعى إلى فرض قوانين جامدة، بل إلى صون سرّ المحبة التي بدونه لا يكون بيت ولا عائلة ولا مجتمع. فلنحفظ معًا عهد الزواج، ولنتعاون – قضاةً ومحامين وأزواجًا وأبناءً – على إبقاء بيوتنا أيقونات لملكوت الله، شاهدة أمام العالم أن “ما جمعه الله لا يفرقه إنسان”.
أختمُ وأقول أنَّ المحكمة الكنسية أمٌ تساند كل قرارٍ لأبنائها يحفظ قدسية حياتهم العائلية وسرِّ زواجِهم المقدَّس بعيداً عن تعقيداتِ القانونِ ومن يعمل بهِ وظيفياً. مصلياً لإلهنا المتحنن أن يحفظكم بصلواتِ وأدعية غبطة أبينا بطريرك المدينةِ المقدسة اوراشليم وسائر اعمال فلسطين والأُردن كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الجزيل الإحترام، وأبينا صاحب السيادة مطران الأُردن كيريوس كيريوس خريستوفوروس الجزيل الإحترام.
عمان في 22 أيلول 2025
الداعي لكم بالخير
رئيس محكمة البداية الكنسية للروم الأُرثوذكس- الأُردن
الأرشمندريت خريستوفوروس حداد
غير أنّ هذه الكنيسة الصغيرة تواجه في أيامنا رياحًا عاصفة: ضغوط اقتصادية خانقة، واختلافات فكرية واجتماعية، ومؤثرات خارجية تحاول أن تقتحم قدسها الداخلي، مهددة وحدتها واستقرارها. وهنا يظهر دور الزوجين الحقيقي: أن يتشبثا بالله أولًا، وأن يتركا النعمة الإلهية تقود حياتهما من خلال الصلاة المشتركة، والمناولة الإلهية المنتظمة، وحفظ سرية البيت، وصون العهد بالأمانة المتبادلة. فحين تتقدس الحياة الزوجية بالنعمة، تتحول الخلافات إلى فرص للنمو، والتجارب إلى أسباب للتقوّي، والضعفات إلى مداخل للاتكال على قوة الله.
بناتي وأبنائي الأحباء:
أريد لكم أن تعرفوا وتثقوا بهِ أنَّ المحكمة الكنسية، ليست ساحة صراع قانوني، بل ذراع رعوي–أبوي للكنيسة، مهمتها الأولى حماية العائلة لا تفكيكها، وإقامة العدالة الإلهية لا العدالة العالمية. وكما قال القديس باسيليوس الكبير: “القوانين لم توضع إلا لغياب المحبة”. لذلك، فالمحكمة الكنسية، وهي تحمل سلطان الكنيسة، مدعوة أن تنظر إلى روح القانون لا إلى حرفه فقط، وأن تقود الأطراف المتخاصمة إلى التوبة والمصالحة ما أمكن، قبل أن تحكم بفسخ ما جمعه الله. رجائي أن اذكَّروا دائمًا، أنَّ الزواجُ مسؤوليَّةٌ مشتركة. كلٌّ منكما مدعوٌّ أن يحمل الآخر، أن يغفر له، أن يسندهُ في ضعفه. الزواجُ المسيحيّ ليس أن يبحثَ كلُّ طرفٍ عن راحتِه، بل أن يبذلَ كلٌّ منكما ذاتَهُ من أجلِ الآخر، كما بذلَ المسيحُ نفسَه من أجلِ الكنيسة.
فالاحترامُ الصادق، والحوارُ البنّاء، هما أعمدةُ البيت المسيحيّ. والاختلافاتُ لا بدَّ أن تأتي، لكنَّها لا تكون سببًا للانقسام، بل فرصةً للتكامل، إذ يُغني الواحدُ الآخرَ بموهبتِهِ ورؤيتِهِ. لِذا ابنائي ارجو ألا يتحوَّلَ الزواجُ إلى صراعِ مصالحٍ بشريَّة. فالزواجُ ليس ميدانًا للأنانيَّة، بل مائدةُ عطاءٍ وتضحية. وإنَّ كلَّ قرارٍ صغيرٍ أو كبيرٍ في العائلة – من تربيةِ الأولاد، إلى إدارةِ المال، إلى تنظيمِ شؤونِ الإرث والميراث – يجبُ أن يكون ثمرةَ صلاةٍ ومشاورةٍ واتِّفاق، لا نزاعٍ أو خصومة. فالكنيسةُ تُذكِّر دائمًا أنَّ المالَ والأملاكَ ليست غايةً، بل وسيلةٌ لعيشِ المحبَّةِ وخدمةِ الأسرةِ والآخرين. وإنَّ تقسيمَ الإرث، أو إدارةَ الأموال، أو أيَّ شأنٍ مادّيٍّ، ينبغي أن يتمَّ بروحِ الإنجيل، لا بروحِ العالم، ليبقى البيتُ في وحدةٍ لا في انقسام. فقدسيَّة العائلة تكمن في المحافظة على الوحدة، وأن تتمسَّكوا بهذا السرِّ مهما قست الظروفُ، لأنَّ اللهَ هو الشاهدُ على عهودِكم. فلتجعلوا بيوتَكم كنائسَ صغيرة، حيثُ الكلمةُ تُعلَن، والصَّلاةُ تُرفَع، والمحبَّةُ تُترجَم في خدمةِ بعضِكم بعضًا، وفي تربيةِ أولادِكم على مخافةِ الله ومحبَّةِ الوطن والكنيسة.
رجائي منكم، قبل أن تسلِّموا مصير عائلتكم إلى المحامين، سلِّموه للمسيح. وقبل أن تضعوا مشكلتكم في يد القانون، ضعوها عند أقدام المذبح. اذهبوا إلى أب اعترافكم، وافتحوا قلوبكم أمامه.
وإن تعذّر الحل، فمن محبتها أنشأت الكنيسة “بيت العائلة المسيحية”، وهو بيت كل واحد منكم، فيه من يساعدكم على حل خلافاتكم وجذورها، والسعي بحرص وبمخافة الله لتقريب وجهات النظر بعيدًا عن الانحيازات الشخصية. فيه تجدون مختصين وإرشاديين: روحيين، نفسيين واجتماعيين. دورهم هو مساعدتكم بشتى الطرق على التوفيق. وإن تعذّر الإصلاح، فتعالوا إلى المحكمة الكنسية بأنفسكم مباشرة، وهي سترشدكم حفاظًا على سلامة بيتكم، فالكنيسة تفتح أبوابها للصلح قبل أن يُكتب أي حكم، فإن كثيرًا من النزاعات، حين تُعرض على نور الإنجيل، تذوب كما يذوب الثلج تحت شمس القيامة.
هنا، أرفع صوتَ التحذيرِ بلسانِ الكنيسةِ الأمِّ: كم من بيوتٍ كان يمكن أن تُشفى بالاعترافِ الصادقِ أمامَ اللهِ، أو بجلسةٍ روحيةٍ مع الأبِ الكاهنِ، تحوَّلت إلى ملفاتَ متضخمةٍ في أروقةِ المحاكمِ، لأنَّ الزوجين لجآ مباشرةً إلى المحامِين. بعضُ المحامِين – وليس جميعُهم – يسلكون بمنطقِ الرّبحِ الماليِّ لا بمنطقِ الإصلاحِ، فيضخِّمون الخلافاتِ، ويزرعونَ الشكوكَ، ويحوِّلون جراحَ القلبِ إلى قضايا على الورقِ. العائلةُ ليست نزاعًا على ممتلكاتٍ ولا حساباتٍ، بل سرٌّ مقدّسٌ بحضورِ الله الديان. وكثيرون يشوهون صورة المحكمةِ لاهدافٍ خاصةِ تخدمُ مصالحهم، أُريدكم أن تعرفوا أنها لا تقاضى ألوفاً فرسومها واضحة على مدخلها وما زاد عنه لا علاقة لها بهِ ولا يدخلُ إليها. فالمحكمةُ الكنسيةُ، في جوهرِها، هي صوتُ الكنيسةِ الداعي إلى التوبةِ والمصالحةِ. إنها مكانُ شفاءٍ، تدخلُ إلى أعماقِ الجرحِ لا لتقطعه، بل لتضمدَه.
أبنائي وبناتي الأحباء:
أشعرُ معكم وما تتعرضون لهُ ولكنني أوصيكم برجاءٍ وبمحبَّةٍ أبويَّة أن تحافظوا على كيانِ زواجكم قائماً، كما حافظَ المسيح على الكنيسةِ. وإن لم تتمكنوا من الاستمرار في مسيرة الزواج، فليكن قرار الانفصال محمولًا بروح الإنجيل، ومشبعًا بالمحبة والاحترام. لا تحملوا أبناءكم ثقل خلافاتكم، ولا تزجّوهم في معارككم، بل حصّنوهم برؤية تحفظ صورة كل منكما في قلوبهم. ليعرفوا أنكما – وإن افترقتما كزوجين – بقيتما متّحدين كأبوين في المحبة، حريصين على مستقبلهم وكرامتهم. فهم ثمار الحُبِّ، ووجودهم شهادة حية على أن الزواج ليس علاقة فردية، بل سرّ يتجاوز الزوجين ليشمل الأجيال القادمة. فلا تجعلوا من ضعفكم حجة ليأس أبنائكم، بل اجعلوا من محبتكم لهم – حتى في انفصالكم إنَّ حدثَّ – دافعًا للثبات على الحق والوفاء للعهد.
إخوتي القضاة في محكمتنا الكنسيَّة:
من هنا أردتُ أن أتوجه لكم بمسؤوليَّة أن تدركوا عُمقاً أنكم لستم مجرّد مفسّرين للقوانين وعاملين في تطبيقهِ، بل أنتم حماة لسرٍّ مقدَّس هي عائلة المسيح. رجائي بحزمٍ أن اضبطوا جلسات المحاكمة بروح الإنجيل، ووجّهوا قراراتكم أولًا إلى خلاص النفوس قبل ترتيب الملفات. أصغوا إلى الزوجين مباشرة، تواصلوا معهما بروح أبويٍ، ولا تسمحوا لأي تدخّل خارجي أن يمسّ خصوصية حياتهما دون إذن القضاء. ولا للمماطلةِ في الإجراءات القضائية، مما ينعكسُ سلباً على حياتها وسلامها، احملوا بصرامة رعوية مسؤولية محاسبة كل من يطعن في قدسية المحكمةِ أو يعبث بسلام البيت المسيحي، وتذكروا أن الحرف يقتل، أما الروح فيحيي، وجهوا الجلسةَ حيث يريد الله لا الإنسان وحرفية القانون بجفافهِ، فإنَّ وِحدةَ وخلاص عائلة واحدة أمام الله أثمن من أي انتصار قانوني أرضي. لأنكم بذلك تحفظون جسد المسيح من الانقسام.
الأحباء الإخوة المحامون:
رجائي أن أحبوا الله واتقوه في نفوسِ إخوتكم، لأنكم ستُسألون أمام عرش الديّان عن أمانتكم فيما أوكلكم إليه الناس. إن الزواج ليس ملفًّا قانونيًا ولا قضية ربح وخسارة، بل هو عهد مقدس بين شخصين أمام الله، وأنتم إما شركاء في خلاصهما أو أدوات لهلاكهما. لا تجعلوا من النزاعات الزوجية مادة للربح المادي أو وسيلة لتوسيع الشرخ بين القلوب. لا تكبّروا الجراح ولا تزيدوا التعقيدات، بل كونوا جسرًا نحو السلام، وصوتًا يذكّر الأطراف بأن هناك نعمة قادرة أن تجدّد ما ظن الناس أنه قد مات. ولكي تكونوا أنتم هكذا صيروا أولا مع الله فتكونوا لهم إخوة لا مدافعين بالمالِ. فاحذروا أن تُلقى منكم العثرة، لأن من يزرع الشوك في بستان العائلة يحصد نارًا في يوم الدينونة.
الأهل الأحبّة،
برجاءٍ أبويٍ صونوا خصوصية أبنائكم بعد زواجهم، واتركوا لهم المساحة الكافية ليتعرّفوا إلى بعضهم بعمق، ويكتشفوا طباعهم بعيدًا عن إسقاط آرائكم وأحكامكم. أنتم تعرفون أبناءكم بميزان العاطفة، لكن الزواج لا يقوم على العاطفة وحدها، بل على الحب الممزوج بالمعرفة، وعلى وحدة الفكر التي تولد بعد عبور جسر الاختلاف.
لا تنصحوا بما تعرفونه أنتم عنهم، فمعرفتكم وليدة زمنكم وتجاربكم، وحياتهم اليوم تحمل سياقًا مختلفًا. ليجد كلٌّ منهما في الآخر الأمان والاحترام والتقدير، فأبناؤكم، حين يتزوّجون، لا يعودون ملكًا لكم بل يصبحون أمانة في قلب شركائهم. إن أدركتم أن شريك ابنتكم أو شريكة ابنكم هما ابنكم وابنتكم بالروح والمحبّة، وتعاملتم معهم على هذا الأساس، استمرت الحياة في سلام. لا تقفوا مع أبنائكم بعاطفة تعمي البصيرة، بل بعقل راشد ومسؤولية متجردة من الأنانية، لتمنحوهم الفرصة أن يشقوا طريقهم بالصبر والجدّ. أطلقوهم أحرارًا في فضاء المحبة، فالمحبّة ترفع الإنسان وتحييهِ، أمّا العاطفة المفرطة فتقيّده وتُمِيتهُ.
أيها الأحباء، إن الكنيسة إذ تخاطبكم اليوم، فإنها تفعل ذلك بصوت الأم التي تتمخض على أولادها وهم على حافة الخطر. هي لا تسعى إلى فرض قوانين جامدة، بل إلى صون سرّ المحبة التي بدونه لا يكون بيت ولا عائلة ولا مجتمع. فلنحفظ معًا عهد الزواج، ولنتعاون – قضاةً ومحامين وأزواجًا وأبناءً – على إبقاء بيوتنا أيقونات لملكوت الله، شاهدة أمام العالم أن “ما جمعه الله لا يفرقه إنسان”.
أختمُ وأقول أنَّ المحكمة الكنسية أمٌ تساند كل قرارٍ لأبنائها يحفظ قدسية حياتهم العائلية وسرِّ زواجِهم المقدَّس بعيداً عن تعقيداتِ القانونِ ومن يعمل بهِ وظيفياً. مصلياً لإلهنا المتحنن أن يحفظكم بصلواتِ وأدعية غبطة أبينا بطريرك المدينةِ المقدسة اوراشليم وسائر اعمال فلسطين والأُردن كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الجزيل الإحترام، وأبينا صاحب السيادة مطران الأُردن كيريوس كيريوس خريستوفوروس الجزيل الإحترام.
عمان في 22 أيلول 2025
الداعي لكم بالخير
رئيس محكمة البداية الكنسية للروم الأُرثوذكس- الأُردن
الأرشمندريت خريستوفوروس حداد