الإيمان (2) لقدس الأرشمندريت أليكسيوس رئيس دير كيسنوفوندوس
ديسمبر 29, 2023معمودية المسيح ودورها في خلاص البشر
ديسمبر 29, 2023موعظة موجهة إلى تلاميذ مدرسة أثوثياذا عام 2017:
الآباء القديسون المقدّرون، أيها الأبناء الأحباء كما هو معلوم أن كنيستنا قد حدّدت شفعاء لأولاد المدارس وهم ثلاثة أقمار الكنيسة الذين هم منارات “الألوهة المثلثة الشموس”: باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الذهبي الفم، ولذلك قد حُدِّد لنا بأن نكرِّمهم بشكل خاص في عيدهم واعتماده كعيد مدرسيّ، وهكذا نحن اليوم وبورع خاص وتكريم اجتمعنا وأقمنا سرّ الشكر الإلهي لإكرام وتذكار رؤساء الكهنة والمعلمين العِظام من أجل تقديسنا وإستنارتنا جميعاً.
من خلال دراستنا لسيرة حياة الأقمار الثلاثة نرى أنهم في بداية حياتهم الطفولية كانوا تلاميذ ولمدة طويلة من الزمن، وكانوا يتابعون جميع دروسهم التي كانت تُدرَّس في عصرهم بغيرة واجتهاد، وأما في دراساتهم العليا فقد تفوَّقوا فيما بعد بالفسلفة والخطابة وبعلم الفلك….الخ، ووصلوا لمراكز روحيّة عالية، وتفوَّقوا في القسطنطينية وأثينا وفي أماكن أخرى، وأصبحوا علماء.
ولكن الشيء الذي أظهرهم وميَّزهم على علماء عصرهم -في حياتهم اللاحقة وحتى اليوم ولعصور عديدة وبالتالي أن يتمجّدوا- لم يكن حصولهم على العلوم الإنسانية والحكمة التي مركزها الإنسان أو الأهداف الإنسانيّة، وإنما ثقافتهم الإلهية والإنسانية أو فضائلهم التي تتمحور حول الإله الإنسان (المسيح)، وحكمة الروح القدس التي لا يمكن أن تُقتنى بالعلوم الإنسانية أو الإمكانيات البشرية وإنما هي عطيّة من الله تُمنح بعد ممارسة الفضيلة بالنّسك المتواضع.
وكانوا في كل حياتهم مؤمنين وتلاميذ للمسيح متواضعين، تتلمذوا بالتعاليم الأبديّة الحقيقيّة الإنجيليّة، وجاهدوا بصبر وإرادة قويّة للوصول إلى النتيجة المرجوّة، ألا وهي تنقية نفوسهم وقداسة أجسادهم ولمعان حياتهم وأخلاقهم العالية، والأكثر من ذلك كانوا يبشِّرون بكلمة الله من خلال تعاليمهم وبالقدوة الصالحة التي كانوا يتمتّعون بها.
إن محور جهاد الأقمار الثلاثة لم يكن المنطق والعقل وإنما أيضاً القلب، لذلك لم يسعوا لزيادة معرفتهم الإنسانية والحكمة البشرية، بل ليصلوا إلى الإستنارة الإلهيّة التي تأتي إلى القلب المتنقّي من الأهواء. ومن أهم الفضائل التي تميّزوا بها كانت: التواضع والإيمان والمحبة، بالإضافة الى الاجتهاد المستمر والعمل الدؤوب. وبالرغم من نسكهم وزيادة علومهم ومعرفتهم وعظمة جهاداتهم الروحيّة كانوا متواضعين ومملوئين محبّة هائلة تجاه الله والقريب، وكانوا خداماً مميَّزين للمسيح وللكنيسة.
إن تقدمهم وأخلاقهم العالية كانت ثمار عطايا الروح القدس بالإضافة لاجتهادهم الشخصي، وهكذا أصبحوا فيما بعد عظماء ومشاركين في الدفاع عن الإيمان الصحيح بالله. لقد أثمر إيمانهم العميق معرفة إلهية، وكانوا يستخدمون عِلمهم هذا وكافة علومهم لخدمة الله، وهكذا أصبحوا معلمي ورعاة شعب الله، كما أنهم تمكّنوا من معالجة الكثير من المشاكل التي كانت تُشقي البشر. كانوا أصدقاء حقيقيّين للفقراء والضعفاء ولجميع من كان يطلب عونهم. كانوا يقدِّمون الخراف الناطقة -أولاد الله- إلى الحقائق الأبدية التي تخلِّص الإنسان، وكانوا يقودونهم للقداسة والمحبة التي هي الهدف الحقيقي للإنسان .
من خلال إنكار الذات عملوا من أجل الكنيسة والمجتمع بشكل عام وقدّموا تعاليمهم وحبَّهم الغني للبشر. ومن خلال نقاء سيرتهم سخّروا علومهم للوصول الى الفضائل والعيش على أساسها.
لقد سخَّروا معرفتهم لنشر كلمة الله وإنارة النفوس التي كانت غارقة في عمق ظلمة الجهل والإلحاد كي يَخلُصوا من أسْر الخطيئة. وكما أن الهدف كان واحداً ألا وهو الفضيلة، هكذا صار جهادهم واحداً وهو أن يسندوا ويؤسسوا التقوى الإلهية للعالم الذي كان مهترئاً في أيامهم، وأن يقتربوا من الألم البشري شاعرين به مما يعطي لهم راحة داخليّة عندما يقدّمون المساعدة بمحبة لقريبهم الإنسان، كما وكانوا يهتمّون كثيراً لخلاص نفوس الجميع. لذلك فالكنيسة تقدم لنا القدّيسين لنأخذهم كمثال وقدوة لحياتنا، فنستنشق رائحة جهاداتهم ونشاطهم وإيمانهم ومحبتهم لله والقريب.
وإنّي أيّها الأبناء الأحباء أشجّعكم ليس فقط بأن نكرّم هؤلاء القدّيسين وأن نرتل لهم التراتيل، وإنما أيضاً أن نستنير من سلوكهم ومن سيرة حياتهم في جبل آثوس الذي هو بستان الكليّة الطهارة سيدتنا والدة الإله، والذي استحققتم أن تعيشوا فيه وأن تلتحقوا بهذه المدرسة التاريخية التي تسمى مدرسة برج والدة الإله، هذه المدرسة التي دَرَس فيها رجال روحانيّون ومستنيرون وخرّجت آباء مبشِّرين ورهباناً ومعلمين وعلماء في الكنيسة وفي المجتمع بشكل عام. إنها نعمة مميّزة وبرَكة من الله لكم أنتم الموجودين تحت ظلّ حماية سيدتنا والدة الإله. وهي فرصة لتتعلموا أكثر وبالتالي تتوجهوا إلى حياة روحيّة أفضل حتى تستفيدوا روحياً وتسيروا بنجاح في جهادات حياتكم، وعليكم أيضاً أن تشعروا بالرغبة في المحافظة عالياً على كرامة مدرستكم وتحملوا عالياً إسم مدرسة أثونياذا مكرّماً، وذلك بتقدّمكم في دروسكم وخصوصاً في امتلاككم لحياتكم الروحية وبسلوككم الجيد.
عليكم أن تقتدوا في حياتكم بسيرة قدّيسي ثلاثة أقمار الكنيسة الذين نعيِّد لهم اليوم. إنكم تنمون وتكبرون في عصرٍ فيه كثير من التجارب والمحن الإنسانية أو الأهواء النفسية المميتة التي يتوجّب عليكم مجابهتها والتغلّب عليها بالإيمان والصلاة والمحبّة.
ليكن حفاظكم على نفوسكم وأذهانكم كمن يحافظ على الجواهر النّفيسة، ليس بالمعرفة فقط وإنما من خلال حياتكم العمليّة، وعندما تصبحون بنعمة الروح القدس قناديل مقدّسة، حينها تُطرد الظلمة ويشعّ مكانها النور الإلهي.
إن فترة حياتكم التي تعيشونها الآن هي الأكثر أهمية، كونكم تبنون بها مستقبلكم، ففي هذه الحقبة تُخلق المقوّمات لتشكيل عالمكم النفسي، وبالتوازي ما بين الفضيلة التي على الرجل النقي أن يتحلّى بها، والمعرفة التي سيعطونكم أباؤنا كَزادٍ لكم لحياة أفضل، فتكون نوعيَّة حياتكم مميّزة بالمسيح الإله.
إن هذا التعب الذي يقوم به معلموكم وآباؤكم القدّيسون سيُقدَّر إن سعيتم بمحبة داخلية وغيرة وعمل مقدّس للوصول إلى الفضيلة والمعرفة الإلهية.
بتضرعات ثلاثة أقمار الكنيسة وبركاتهم نتمنى لكم -نحن الحقيرين- إستنارة قوية من الله وتقدُّم في تعاليمكم في الفضيلة.