كيف يستطيع الإنسان أن ينتصر على الموت
ديسمبر 29, 2023من أين يبدأ الإيمان للأب رومانيدس
ديسمبر 29, 2023قيمة الصلاة وضروريتها:
يقول أحد القديسين العظماء والذي إسمه أيضاً القديس غريغوريوس السينائي: “الصلاة هي قدرة الإيمان، وهي الإيمان المباشر، إنها إظهار المعمودية، وهي تأكيد ميزات المسيحي”، وبكلمات أخرى إن قلنا أننا نؤمن بالله وبأننا مسيحيون ولكننا من جهة أخرى لا نصلّي فإننا نكون أمام متناقضين.
إن كان الإنسان مصلّياً فهذا يؤمّن له أعظم صك أمان كي يحيا بضمير صالح كمسيحي، فالكنيسة المسيحية هي كنيسة المصلّين. أي إنسان لا يصلّي فإنه حتى وإن كان يبدو بأنه رجل فاضل فإنه لا يستطيع أن يكون مسيحياً حقيقياً مهما قارن نفسه بالمصلّين، لأنه كيف يمكنه أن يؤمن بذاك الذي لا يعرفه ؟ لأن حضور الله ونعمته لا يمكن أن تصير محسوسة ومعروفة لنا إلا من خلال الصلاة.
ماذا قال الهرطوقي برلعام حول موضوع الصلاة؟
لقد استعمل قول بولس الرسول في(1 تس 5: 17)”صَلُّوا بِلاَ انْقِطَاعٍ.” مفسِّراً إياها تفسيراً خاطئاً كما يلي:
إن الصلاة بلا انقطاع هي أن يؤمن الإنسان أنه مهما يفعل أو يعمل لا يمكن أن يتم عمله إلّا بإرادة الله، بكلمات أخرى فهو يقصد بتفسيره هذا أن الصلاة بلا انقطاع هي: الإيمان بإرادة الله.
فماذا أجابه القديس غريغوريوس بالاماس؟
إن هذا الذي تسمّيه صلاة لهو متوفِّر عند الشياطين فهُم أيضاً يطلبون الإذن قبل أي عمل يقومون به فنراهم يفعلون ذلك قبل أن يدخلوا في قطيع الخنازير “فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ الشَّيَاطِينِ قَائِلِينَ: «أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا».” (مر 5: 12)، وقبل أن يجرّبوا أيوب الصديق فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ الرَّبَّ وَقَالَ: «…وَلكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ». فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ». ثمَّ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِ الرَّبِّ. (أي 1: 11 – 12)، وقبل أن يجرّبوا بطرس الرسول “وَقَالَ الرَّبُّ: «سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ!” (لو 22: 31).
إذاً الإيمان بالله وبمشيئته شيء والصلاة هي شيء آخر لأن الشياطين تؤمن وتقشعر “أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ!” (يع 2: 19) ولكنّهم لا يصلّون، لأجل ذلك “فإن كل من يؤمن ولا يصلّي يصير متمثلاً بالشياطين الذين هم روحياً مائتون ونتنون وهم مُبعَدون كلّياً عن الله. وكما أن جسدنا بدون النفس يصبح جثّة مائتة ونتنة هكذا أيضاً فإن النفس التي لا تسيطر على ذاتها وتسيِّرها بالصلاة لهي مائتة و تعيسة ونتنة” هذا ما يؤكده القديس يوحنا الذهبي الفم.
فالصلاة إذاً هي حياة النفس وهي نفس الروح، أي أن حياة النفس هي أهم من حياة الجسد ومثال ذلك دانيال النبي الذي فضّل أن يُلقى في جب الأسود على أن يترك الصلاة ولو ليوم واحد.
تعريف الصلاة: ما هي الصلاة؟
بحسب القديس غريغوريوس بالاماس: “إن الصلاة ترفع الإنسان من الأرض إلى السماء وتجعله يتخطى السماويات حتى أنه يتخطى أيضاً أي تفكير حول الله، ولكنها تحضره أمام الله نفسه والذي هو أعلى من الجميع”.
الصلاة إذاً هي ارتقاء الإنسان نحو الله للحضور أمامه. ولكن لماذا نحن بحاجة للإرتقاء حتى نستطيع أن نتقابل مع الله؟ أليس هو موجوداً في كل مكان؟ ألم يقل بولس الرسول: “لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضًا: لأَنَّنَا أَيْضًا ذُرِّيَّتُهُ.” (أع 17: 28).
بالطبع هو موجود في كل مكان ولكن وبحسب الكتاب المقدس فإن السماء هي مكان سكنى الله، وكما علّمنا الرب يسوع المسيح أن نصلّي في الصلاة الربّية “فَقَالَ لَهُمْ: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ.” (لو 11: 2). وهذا لا يعني أن الله موجود بعيداً عنّا حيث السماء وإنما هذا يعني بأننا حين انشغالنا بالأمور الأرضية وتكريس صلواتنا فيما يتعلق بها فقط يجعل فكرنا وقلبنا بعيدين عن الله، لذا علينا أن نرتقي بأذهاننا نحو السماويات. إذاً الارتقاء هو: أن يرتقي الإنسان عن الأمور المادية والحسّية والمخلوقة تاركاً إياها في لدن الرب وموجّهاً جلّ اهتمامه إلى ما هو أسمى وأعلى، أي إلى فوق إلى السماويات “لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ.” (مت 6: 33).
الذهن وعمله:
بما أن الإنسان مركّب كيانياً من جسم و نفس، فكيف يمكن أن يتحقق الانتقال من الماديات إلى ما هو فوق الأمور الحسّية؟
إنه سؤال وجيه حقاً ولكن القديس غريغوريوس بلاماس يجيبنا على هذا السؤال فيقول: “بالتأكيد يتم هذا بواسطة قوة النفس والذهن”.
وما هو الذهن الإنساني؟
فيجيب: “الذهن هو المكان الذي تتجمّع فيه الأفكار والمعاني الروحيّة، فالأفكار والمعاني ليست هي الذهن بحد ذاته وإنما هي القوى الصادرة عن الذهن. أما الذهن: فهو قوة النفس التي تحرِّك الأفكار والمعاني. وهذا الذهن يسميه الكتاب المقدَّس بأنه القلب، والذي هو القوة الأكبر للنفس، والقلب هو الذي يجعل الإنسان مميَّزاً بفكره.
أما المنطق: فهو بحسب الآباء القديسين عبارة عن المبادئ الأخلاقية. إذاً يوجد في الإنسان:
الذهن والمنطق والضمير الأخلاقي الذي يسيطر على كافة قوى النفس، وهذه الأمور هي التي تسيطر على إرادة الإنسان ومشاعره ورغباته …إلخ. والسؤال المطروح الآن هو: بأي من هذه المعطيات يصلي الذهن؟ هل يصلّي بقدراته والتي هي أفكاره ومعتقداته؟ ولكننا قلنا أثناء تعريفنا للصلاة بأنها أعلى من أي فكر حول الله!
فيجيبنا في ذلك القديس نيلوس الناسك: ” ان الصلاة تتم عندما تترفَّع أنت عن كل الأفكار، وعندما تصبح مجرّداً منها ومن كافة الصور والتخيلات والمعاني التي تتحدث عن الله”.
ونجد أن القديس غريغوريوس يخرجنا من هذا المأزق واضعاً أمامنا فقرة للقديس ماكسيموس المعترف والتي بها يفسِّر قول القديس ذيونيسيوس الآريوباغي قائلاً: “إنه لمن المميّز كيف أن الآباء القديسين يفسِّر كلّ منهم الآخر، وكلُّها مأخوذة من زبدة اختبارهم للروح القدس، لذلك يقول: “لدى ذهننا الامكانية والقدرة على الاتحاد وهذا يتخطى طبيعته ليتصل بما يتخطاه” وبكلمات أخرى فإن الذهن ليس مجرّد قوة فحسب ولكنه هو قوة النفس ذاتها، إنه القدرة على الاتحاد فيما يعلو عنه.
ان هذه القدرة على الاتحاد والاشتراك بالله تسمى (الرؤية الإلهية) أي (التأله). وبهذا الخصوص يقول الآباء القديسون: “أن يرى الإنسان الله يعني أن يتّحد به”، لذلك يسمَّى الذهن بـِ (عيون النفس) أو (العيون الذهنية) أو (البصيرة) أو (رؤية النفس). يقول الآباء أيضاً: “إن امكانية رؤية الله ليست هي الأمر الرئيسي في قدرة الذهن وليست هي قمّة معطياته، وإنما الهدف الرئيسي من خلق الله للذهن هو الأساس. أي ان ذهن الإنسان أوقلبه قد خُلِق من أجل أن يرى بواسطته الله خالقه، وهذا ما كان يُفرح الجدَّين الأولين وهو رؤيتهما لخالقهما.
ولكن كيف تعمل هذه الرؤية الذهنية؟
يوضِّح القديس غريغوريوس قائلاً: “الرؤية الذهنية ليست كالرؤية الجسدية التي بها نرى كل الأشياء كانعكاسات للعينين، فالأعين البشرية ترى كل شيء تحت ناظريها، إلّا أن الإنسان لا يستطيع من خلالها أن يرى ذاته، أما الرؤية الذهنية فتختلف تماماً فالذهن قد يرى الأشياء من خلال أحاسيسه أو من خلال تخيلاته أو من خلال فكره، ولكن هذا الذهن يستطيع أن يرى ذاته عندما يعود لنفسه ويعمل من أجل ذاته، وهذا ما يسميه القديس ذيونيسيوس الأريوباغي بـِ (الحركة الدائرية للذهن)، وهذه الحركة الدائرية هي أعلى من قدرة الذهن المألوفة وتتخطاه كي تصل إلى الاتحاد بالله، ويقول القديس غريغوريوس كما والقديس باسيليوس الكبير: “إن الذهن غير المشتَّت يعود إلى ذاته، ومن خلال ذاته يصل إلى الله”، “وهذه الحركة الدائرية، يقول القديس ذيونيسيوس، لا يمكن أن تضِل ولا يمكن أن تسقط في فخاخ الشيطان”.
السقوط – الخطيئة – الأهواء:
دعونا نبحث عن هذه الثلاثة بالدور:
داخل الفردوس كان ذهن الجدّين الأولين يرى الله، وليس من خلال الحركة الدائرية التي تكلّمنا عنها سابقاً فحسب وإنما أيضاً من خلال تحرُّك من نوع آخر يسميه القديس ذيونيسيوس بـِ (الحركة الحلزونية) وبالتالي كان يرى من خلال حركة مزدوجة ما بين الحركة الدائرية والمستقيمة، إذ كان يرى الله من خلال مخلوقاته، كما وكان الذهن يرى خليقة الله حوله فيرتقي نحو الله ويسبِّحه.
لقد استغل الشيطان تلك الحركة الحلزونية ونجح في أن يُدخل خبثه ويحوِّل تلك الحركة من حلزونية إلى مستقيمة فقط، أي أنه حوَّل انتباه الإنسان بشكل كامل تجاه كل المخلوقات، من خلال أكله لثمرة معرفة الخير والشر، وبالتالي جعله ينحرف عن الله ويتجاهل وصيته.
إذاَ فالخطيئة : هي التحوُّل من الله الخالق إلى المخلوق، ولهذا السبب فإن الحركة الدائرية لا يمكن لها أن تضِل أو تسقُط، بعكس الحركة الحلزونية القابلة للسقوط.
ما هي أكبر نتيجة حصلت للجدّين الأولين بعد السقوط؟
يقول القديس مكاريوس المصري: “ان أفكار الإنسان أصبحت مثل الطيور التي لا تستطيع أن تطير أكثر من عدة أمتار وهي لا تعلو عن الأرض. إن ذهن الإنسان قد أهمل ونسي بالكلّية بساطة وعلو قدرته والرؤية الإلهية، وحوَّل ناظريه نحو المخلوقات ونحو الخطيئة.
وهكذا قُتِلَ روحياً وتدنَّس ومعه تلوّثت جميع قوى النفس، لأن المسيح قال: “سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِمًا.” (لو 11: 34).
لذلك فإن النفس كلّها وعلى رأسها الذهن قد مرضت وصارت تتألم، وأصبحت كل قوى النفس المريضة ضعيفة وصارت تُدعى بـِ (أهواء عقل الإنسان) وفكره صار يتألم من كبريائه ومن شعوره بالغضب والحقد والزعل وحب الشهوة وحب المال وما شابه ذلك.
الشفاء – بحفظ الوصايا:
هل يمكن الشفاء من هذه الحالة المرضية التي للنفس؟
قبل مجيء الرب يسوع المسيح إلى العالم بالطبع لم يكن ممكناً، كما ولا يمكن الشفاء دون اشتراكنا في حياة الأسرار الكنسية.
هل هذا يكفي؟
الكثير منا يقوم بهذه المعطيات الأساسية ولكنّنا مع ذلك نبقى بعيدين عن رؤية الله، فهل ما يقوله القديس غريغوريوس بلاماس بعيد المنال؟ وهل كلامه مجرّد تعاليم نظرية بعيدة عن التطبيق العملي؟
في الحقيقة لا يمكن أن يتحقق تطبيق هذه التعاليم إن بقينا في حالتنا المظلمة التي تسببت بها الأهواء التي فينا. إن لم نفهم عظمة الراحة التي يشعر بها الذهن النقي أي (الرؤية الإلهية)، وكوننا نؤمن بذاك الذي أخذ طبيعتنا البشرية وأعطاها من مجد طبيعته، علينا إذاً أن نطلب رؤية هذه الحالة ونحيا بها.
وكيف يتم تطبيق ذلكً؟
بحفظ الوصايا، لأن الرب وعد كل من يحفظ وصاياه بأن له الحياة الأبدية “اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي».” (يو 14: 21).
وما هي طرق حفظ وصايا الرب؟
أن نحِب، وأن نحاول اقتناء الفضائل التي علّمنا اياها الرب يسوع المسيح بالإنجيل، وبالدرجة الأولى علينا أن نشكره، وأن نطرد من نفوسنا جميع الشرور مستعيضين بها بما هو نقيضها من أفعال الخير، فمثلاً: عوض الحقد علينا أن نضع المحبّة، وعوض حب المال علينا أن نضع الرحمة، وعوض الغضب أن نتحلّى بالوداعة، وعوض الكبرياء نضع التواضع.
كما ويقول القديس غريغوريوس بلاماس: “على النفس أن تكره كل ما هو ضد وصايا الله، وأن تحب وصاياه، وتحِب الله الذي أعطانا بمحبته هذه القدرة على أن نحيا وصاياه وأن نحافظ عليها.
دور الجسد ودور الدموع في الاشتراك بالصلاة:
بناء على ما تم شرحه أعلاه حول ضرورة حفظ الوصايا، فهل علينا إذاً أن نترك الصلاة ونذهب لحفظ الوصايا؟
بالطبع لا، لأن الصلاة هي من وصايا المسيح وأهمها، ويقول القديس غريغوريوس: “يجب علينا ألّا نبقى بلا صلاة، وإنما نلتصق بها حتى نصل إلى الحالة الصلاتية التي تكلّمنا عنها سابقاً، أي صلاة نقية ذهنية وقلبية تأملية بالله”، ولكن في ذات الوقت علينا أن نسيطر على أهواء أنفسنا، فالصلاة القلبية لا يمكن أن نتذوقها ولا بطرف شفاهنا دون آلام الجسد وحزنه، فعندما نريد أن نصلّي علينا أن نضع في فكرنا أن آلام وشقاء أجسادنا من خلال الصيام والسهر وجميع الأعمال النسكيّة تُميت الخطيئة التي في الجسد وتصفع جميع الأفكار والأهواء والشهوات، وبالتالي تتلاشى تدريجياً من أجسادنا. وأما الأعمال النسكية فهي التي تجلب إلى نفوسنا الخشوع المقدّس وذلك عندما نطرد كل ما يدنّسنا، فالحياة النسكيّة تجلب تحنّن الله علينا فيستمع إلى دعائنا، كما قال النبي داود: “لا تطرحني من قدام وجهك، وروحك القدوس لا تنزعه مني” (مزمور50 : 11)
والقديس غريغوريوس اللاهوتي يقول: “إن أكثر شيء يكرهه الله هو الأهواء الشريرة، لذلك يعلّمنا الرب في الإنجيل بأن أكبر أهمية للصلاة تكمُن في تلازمها مع الصوم”.
وفي هذا المجال يقول أيضاً القديس يوحنا السلّمي: ” بدأنا بما هو كبير وعال وانتهينا بالأمور المتواضعة والمنخفضة، والخطايا بدأت بما هو صغير
نفس الإجراء مع حفظ الوصايا فإن أول خطواتنا في الصلاة علينا أن نصحبها مع الألم الجسدي أي الصوم والسهرانيات، حينها تأخذ الصلاة النِعَم السماوية، كما وعلينا أن نطلب شفاعات الآباء الأبرار.
لهذه الوسائل الثلاث (الصوم والسهرانيات والصلاة) قوة عظيمة للمؤمنين خصوصاً في فترة الصيام الأربعيني المقدَّس.
يبدو أن حرمان الجسد من الطعام والنوم من أجل الصلاة ثقيل على مسامع الشعب وخصوصاً في هذه الأيام، لذلك تجد أن صلواتنا تفتقر للعطايا السماوية بسبب افتقارها للوسائل الثلاث (الصوم والسهرانيات والصلاة) وهي التي تعطي نوعية الصلاة في النفس.
لأن الصلاة دون خشوع ونسك توصف من قبل القديس غريغوريوس بأنها (بلا طعم)، أي أنها تفقد نوعيتها، والدموع في فترة الصلاة تشكِّل محطة كبيرة في المسيرة للوصول إلى الصلاة القلبية، فإن استطعت أن تبكي وأنت تصلِّي حينها يلمس الله عيون قلبك وحينها تراه قلبياً كما حدث مع الأعمى الذي شفاه الرب، وهذا ما يقوله أيضاً القديس مرقس الناسك.
القديس فيلوثيوس كوكينوس بطريرك القسطنطينية تلميذ القديس غريغوريوس بلاماس أثناء تدوينه لسيرة القديس غريغوريوس قال عنه: “لقد حظي بنعمة الدموع، فكانت دموعه تسيل بهدوء وكأنها جداول، وكان من الطبيعي لقديسنا أن يبكي وقت الصلاة فصارت صلاته مشتركة ما بين ذهنه وجسده”.
الكثير من الناس في يومنا الحاضر لديهم نفس المرض الروحي الذي كان لدى برلعام، ذاك الذي كان يشعر بالاشمئزاز حين سماعه عن اشتراك الجسد مع الروح في الصلاة، محاولاً في ذلك إخفاء كبريائه تحت شكل الخشوع، وكان يعلِّم أن هذه الوسائل (الصيام والسجدات والدموع) تسبّب تشتيتاً وبالتالي عائقاً للصلاة. ونجد أتباعه المعاصرين في أيامنا الحاضرة يدّعون بأن هذه الوسائل هي حركات رياء وأنها مجرد تعابير قديمة آتية من الحقبات المظلمة وليس لها أي موقع في زمننا الحاضر المتطور، والبعض منهم يعتقد بأن الصلاة هي عبارة عن واجب وتطبيق لعادات فرّيسية، أي كما كان يحيا الفرّيسيون الذين كانت الصلاة بالنسبة لهم مجرد عادة يقومون بأدائها وبالتالي يدّعون بأن الصلاة تقوِّي أنانية الإنسان وحبِّه لذاته دون أن تقوده للتوبة.
هذا المعتقد يدفعنا للتكلم عن الأسلوب هذا في الصلاة والذي يبدو غريباً بالنسبة للّاهوت الغربي، أعني به (الصلاة القلبية) كونه كان كحجر عثرة بالنسبة لبرلعام ولاتباعه:
بحسب خبرة الآباء الأبرار الذين بذلوا حياتهم في سبيل الوصول للصلاة القلبية علّمهم القديس بأنهم في استخدامهم لهذا الأسلوب ما هم إلّا في بداية طريق الصلاة، والتي تترافق مع باقي الجهادات الروحية التي سبق وذكرناها، وهناك طريقة وضعية معيّنة للجسم أثناء هذه الصلاة وتعتبر أفضل الوضعيات التي نجدها عند جماعات المسيحيين مما لها نفع كبير، وهي تختلف عن وضعية وقوف الجسم في صلوات القداس الإلهي أو الساعات أو باقي الخِدم، أي في حالة الوقوف أو السجود، وبالتوافق مع هذا الأسلوب من الصلاة فهذه الوضعية تساعد المصلي بشكل كبير في التركيز وتجميع ذهنه من مشوشات العالم الخارجي، ومن ثم فهو يحصر ذهنه في داخله (في القلب) ثم من القلب ينطلق نحو الله. وهكذا يجلس المصلي على كرسي منخفض أو على طرابيزة صغيرة ويكون منحنياً ويحول نظره أثناء الصلاة إلى صدره باتجاه وجود قلبه، ويقول القديس غريغوريوس: “ان الإنسان الداخلي يعتاد بعد التشتت من دمج هذه الصلاة في جسده، وكما هي صلاة العشار عندما أظهر توبته، وهكذا فإنه يوجه نفسه باتجاه التنسك، وبهذا بعد صلاة متقدمة، وهكذا تعود الحركة الدائرية للقلب بطريقة أو بأخرى وتوجه ذهن الإنسان في تحقيق هذه الحركة الدائرية من قلب الإنسان إلى الله ثم إلى قلب الإنسان” هذه هي الحالة التي تحدثنا عنها.
مع هذه الوضعية يشرح القديس غريغوريوس عن كيفية الصلاة القلبية في قبض النفَس، ونحن نرى قبض النفَس في كثير من الأحيان عندما يمر على الإنسان فكر معين، وقبض النفَس هذا يحتاج إلى مهارة معينة، ويقول القديس: “إن هذا الأسلوب في الصلاة ليس هو إلّا عامل مساعد ولا يشكل أي عنصر أساسي في الصلاة القلبية، وليس هو إجبارياً ولكنه عامل مساعد لكي يركز ذهن الإنسان في الصلاة، وهذا ليس له أي معنى بدون نعمة الله، وإن ثبات الذهن القلبي لا يتم إلّا بنعمة الروح القدس” وهذا ما يقوله أيضاً القديسان أغناطيوس وكاليستوس بكتاب الفيلوكاليا: “هذا الأسلوب كان قد علّمه الكثير من الآباء الكبار والحديثين على حد سواء، وهذا يذكرنا بالحكمة التي قالها القديس يوحنا السلّمي: “إن ذكر يسوع يجب أن يتلازم مع تنفسّك، حينها ستفهم فائدة النسك”.
في المقولة السابقة يلمّح القديس على قبض النفس للمصلّي في داخله عندما يكون في حالة الفُتُن أو الانسياب الذاتي في الله، كما يعلمنا القديس غريغوريوس بلاماس، وعندها يقول في قلبه: “يارب يسوع المسيح ارحمني” هذه الصلاة تؤدي إلى الصلاة القلبية، وهذه الصلاة لا يستخدمها المبتدئون فحسب وإنما الرجال الكاملون أيضاً كما هو الحال بالنبي الذي رأى الله وهو النبي إيليا الذي من أجل أن يحل حالة القحط التي طلبها هو بنفسه من الله في بادئ الأمر كعقاب للإسرائيليين، كان يصلي جالساً ورأسه مائلاً نحو ركبتيه.
وقبل أن نتقدم أكثر في حديثنا، علينا أن نقارن ما بين عمل وأسلوب الصلاة القلبية وحركاتها الخارجية مع أساليب التفكير الذاتي التي يستخدمها آخرون في الحركات الدينية الشرقية غير المسيحية. وهنا نتذكر كلمات القديس غريغوريوس قائلاً عن الديانات الشرقية: ان المحتال الأعظم يقوم بعمل شاق من حِيَل كي يخدع البشر من خلال الشياطين المحتالة وهذا ينشر الضلال بشكل ليس بعيداً عن الحقيقة، ويصنع من هذه الديانات خدعة مضاعفة وذلك بابتعاد الإنسان عن الصلاة وأيضاً يصنع في نفس هذا الإنسان الضلال مكان الحق ويظهر الضلال وكانه الحق أي بمعنى آخر فإن الحركات التي للديانات الشرقية تتشابه إلى حد كبير من حيث أسلوب الصلاة فقط، وهذا ما يستغله الشيطان لإيقاع الناس في الضلال.
أما في وضعنا الحالي فإن الفرق الصغير ما بين خداع الشيطان والحقيقة هو أن الإنسان المسيحي المصلّي يردد باستمرار اسم “الرب يسوع المسيح” الكلّي القدرة ولكن في “اليوغا” ودين الجن فإن ممارسة هذه الأساليب يردد باستمرار اسماً غير مفهوم أو عبارة عن كلمة غير مفهومة، وإن بحثنا عنها بالتدقيق سنجد أنها تعني “إله صنم الشر” بمعنى آخر: إنه يستدعي الشيطان.
الصلاة القلبية هي صلاة لجميع المسيحيين:
في تكميل حديثنا يقول القديس غريغوريوس بلاماس عندما يتكلم عن الأسلوب العملي للصلاة لتجميع الذهن وذلك من أجل الصلاة القلبية، وكان يوجد بفكره الرهبان الذين كانوا يمارسون هذه الصلاة، هؤلاء كان ضدهم أتباع برلعام الهرطوقي. ما هي تعاليم القديس غريغوريوس بشكل عام وتعاليم الكنيسة للذين هم مسيحيون ويعيشون في العالم؟ هل يستطيع هؤلاء أن يمارسوا هذه الصلاة بهذا الأسلوب مثل الرهبان الذين هم بلا أفكار مشتتة، وقد نذروا حياتهم كلها من أجل هذا الهدف؟ وخصوصاً في أيامنا الحاضرة فإن معطيات حياتنا العالمية أصبحت ضد الصلاة وضد تكريس الذات؟:
“إن نور الرهبان هم الملائكة وأما نور الناس العامة فهي الحياة الرهبانية” هذا ما يقوله القديس يوحنا السلمي. كما هو الحال في ممارسة الفضائل فإن العالم ينظر دائماً إلى الحياة الرهبانية، كذلك أيضاً في حياة الصلاة. ان الصلاة هي وصية انجيلية اعطيت لكافة البشر، وهكذا لا يمكن أن يوضع لها حدود في كيفية ممارستها، وبالنسبة للصلاة القلبية فإنها وصية الرب الواضحة أو الصريحة حين قال: “وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.” (مت 6: 6) ما هو الجزء المظلم في غرفتك؟ إنه قلبنا، يقول القديس غريغوريوس بلاماس حول الصلاة بلا انقطاع حيث يقول بولس الرسول: “صَلُّوا بِلاَ انْقِطَاعٍ.” (1 تس 5: 17) أي صلِّ نهاراً وليلاً.
ماذا يقول القديس غريغوريوس بلاماس حول “صَلُّوا بِلاَ انْقِطَاعٍ.”؟ يقول علينا أن نمارس بحركات الجسد وبكلامنا الشفوي وبفكرنا بقدر المستطاع الصلاة بشكل متواصل إلى أن نكسب المكافأة، وما هي هذه المكافأة. “إنه الروح القدس في الإنسان وهو المكافأة السرّية للصلاة وهي أيضاً عطية الروح القدس والذي يبقى معنا إلى الأبد، وهذه المكافأة أحياناً تجذب الذهن، الذي استحق أن يأخذها، تجذبه نحو الفضيلة وأحيانا نحو الاتحاد بالله والتي تولّد الفرح، وأحياناً هذه الموهبة تقود الإنسان إلى وحدة الصلاة مع الله فيكون متناغماً معه كتناغم موسيقى المغنّيين. إن هذه المكافأة هي عطية الروح القدس وهي نوع من أنواع الصلاة المتجذرة في قلب الإنسان والتي تعمل بشكل كامل وباستمرار حتى في وقت نومه كقول الكتاب المقدس: “أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ. صَوْتُ حَبِيبِي قَارِعًا: «اِفْتَحِي لِي يَا أُخْتِي، يَا حَبِيبَتِي، يَا حَمَامَتِي، يَا كَامِلَتِي! لأَنَّ رَأْسِي امْتَلأَ مِنَ الطَّلِّ، وَقُصَصِي مِنْ نُدَى اللَّيْلِ».” (نش 5: 2).
ولكي تعطى لنا هبة “الصلاة بلا انقطاع” علينا أن نمارس بقدر المستطاع الصلاة بحركاتنا الجسدية بفمنا وبذهننا، فإنه شيء هي الصلاة بلا انقطاع وشيء آخر هي الصلاة الجسدية كعمل بشري وقدرة بشرية.
هذه الصلاة يجب أن يمارسها بقدر المستطاع ليس الرهبان والإكليريكيون فحسب وإنما كافة المسيحيين على حد سواء، هذا ما يعلّمه القديس غريغوريوس.
ان هذا التعليم قد اكده الله بذاته مع هذا المشهد:
كان يوجد راهب تقي اسمه ايوب وكان صديقاً للقديس غريغوريوس، قد تعثر عندما سمع من القديس أن جميع المسيحيين وبدون استثناء رجالاً ونساء وأطفالاً، مثقفين وأميين يجب أن يجاهدوا في الصلاة القلبية التي بلا انقطاع قائلين: “ربي يسوع المسيح ارحمني” بدأ هذا الراهب بالقول أن هذه الصلاة هي فقط للرهبان، ولكن عندما رجع إلى قلّايته وبدأ بالصلاة ظهر له ملاك مرسل من الله وقال له: “انتبه جيداً لنفسك ولا تعلِّم تعاليم تناقض تعاليم غريغوريوس، فعلم هذا الراهب أن هذه الرؤية كانت إلهية من خبرته الروحية، حينها ذهب مسرعاً إلى القديس طالباً منه المعذرة والمسامحة عمّا اقترفه”.
ولكن أبو القديس المشهور قسطنطين بلاماس والذي كان تقياً وأمين سر للامبراطور انذرونيكوس الثاني كان قد تقدم كثيراً في الصلاة القلبية حتى أنه كان يقولها في قلبه وهو في وسط اجتماعات جادة، وأما الامبراطور التقي اندرونيكوس الذي استقال من عرشه كي يصبح راهباً عندما كان يرى قسطنطين مصلياً في الاجتماعات، لم يغضب البتة منه بل كان يتفهم هذا الرجل التقي وكان يقول للمجتمعين: “ان بلاماس لم يغفل نتيجة كسل أو اهمال وإنما بسبب عمقه في الصلاة القلبية” لذلك فإنه لم يكن أباً للقديس غريغوريوس فحسب ولكنه استحق أيضاً أن يصبح أباً لمعلم الصلاة للمسكونة كلها وهو أيضاً يصنع العجائب.
ثمار الصلاة القلبية:
كوننا ذكرنا النعم الإلهية التي تجذبها الصلاة القلبية إلينا، دعونا نرى ماذا يقول عنها القديس غريغوريوس: ” إن أول هبة من الروح القدس والتي تعطى لنا من خلال الصلاة القلبية والتي تعتبر وعاء قابلاً للمواهب الأخرى هو (سلام الأفكار)، ان فكر الإنسان يهدأ والأهواء التي يصنعها الشيطان والتي يثيرها والتي تجعلنا نحيا بحياة اضطراب مستمر، الآن هذه تخسر شوكتها لأنها لن تجد لها أرضاً خصبة في نفسها لأن هذا الإنسان المصلي قد وضع نفسه بشكل كامل في الله من خلال الصلاة، ثم تتبع بعد ذلك نعمة (التواضع الحقيقي) الذي هو الرباط الدقيق لجميع الفضائل، وهو بحد ذاته يجعل الانسان كاملاً، لأنه شيء هو التواضع الذي هو هبة من الله، وشيء آخر هو اتضاع الفكر الذي هو فضيلة وهذا يحتاج إلى محاولات وإلى نسك حتى نصل إليه وهو بدوره يقودنا إلى التواضع.
من خلال هاتين الفضيلتين: السلام والتواضع، وكأنهما زهرتان في حديقة فردوسية تزهران بين الفضائل الكثيرة مثل طول الأناة واللطف والصلاح والإيمان والوداعة والتعفف، ولكن قصر الفضائل هو المحبة ونوافذه الفرح الذي لا يمكن أن يحجبه عنا أي هوى أوأي فكر.
كون الجسم يشترك في الجهاد بالعفة والحزن والدموع لكي يصل إلى الصلاة القلبية، هكذا الآن فهو يشترك بنِعم الروح القدس، فالألم والدموع المرة للحزن يتحولان إلى عذوبة، لأن كلمات الصلاة تجلب لنا شهوة روحيّة وعذوبة في حلقنا وفمنا، فمن خلال ممارستنا للصلاة القلبية نطرد عنا الشهوات الضارة ونستبدلها بالشهوات الصالحة، ويصبح القلب عرشاً للذهن ومركزاً طبيعياً للجسم ويقبل قفزة روحية تملؤه فرحاً وتعطي الجسم شعوراً بالدفء والرضا والسعادة. وأخيراً فإن الرؤية الإلهية النابعة من ذهن نقي للإنسان تصبح محسوسة حيث يدخل في الجسم النقي نورٌ ليس مادياً ولكنه غير مخلوق والذي هو قدرة الله ونعمته وليس جوهره.
وكما هو الحال في الوسائل الجسدية والنفسية للصلاة هكذا فإن مواهب الروح القدس التي تظهر على جسم المصلي بنقاء فإن هذه الأمور تستدعي اندهاش وتساؤلات من لا يشارك هذه الصلاة. ويؤكد القديس غريغوريوس وكما هو الحال بالشهوة الجسدية التي تنطلق من الجسم إلى الفكر جاعلة إياه مادياً وجسدانياً دون أن تنقص أثناء تعاملها معه، مع أنه أي الفكر أعلى منها، وهكذا فإن الهوى الروحي الذي ينبثق من الذهن إلى الجسم يجعل الجسم مشتركاً معه ويجعله روحياً دون أن يتسخ ولا يشترك بما هو أقل منه، بمعنى آخر أي أن الذي يتقدم في الحياة الروحية يصير قادرا على الشعور بالنور الإلهي حسّياً في جسده، فالجسد يشترك مع الروح بالتنعُّم بنعمة الله غير المخلوقة إحساساً جسدانياً أيضاً.
النتيجة:
بقدر ما تظهر هذه الأمور غريبة لفكرنا الجسدي علينا أن لا نبتعد عن الثقة بها. إن آباء الكنيسة لا يعلّمون نظريات فلسفية ولكنهم يتكلمون بثبات وبشكل رئيسي يعبرون عن ثقتهم بنعمة الروح القدس التي يشتركون بها. إن القديس غريغوريوس باستخدامه تعاليم الآباء القديسين يعطي تأكيداً على تعاليمه. إن الصلاة القلبية ليست من اختراع القرن الثالث عشر بل إن اساسها موجود في التقليد وقد صلاها الانبياء واظهرها الرب والرسل وعاشها وتذوق ثمارها جميع آباء وأبرار الكنيسة.
قد يسأل البعض: “لماذا ظهر الأسلوب العملي لهذه الصلاة في كتابات الآباء في القرن الثالث عشر؟”
أولاً: ان الأسلوب العملي ليس هو إلّا واسطة مساعدة، هذا ما يقوله القديس بلاماس وليس الأسلوب هو الصلاة القلبية بحد ذاتها. ومن الكتابات النسكية للآباء القديسين فإن هذه الصلاة لم تكن معروفة لديهم فحسب وإنما وكانت منتشرة أيضاً في الأوساط الرهبانية وكانت هذه حياتهم العملية المُعاشة ولم يحتاجوا لكتابتها وتدوينها.
إن أجرينا مقارنة في عصور مختلفة سنرى أنه كما أن الخطيئة تتكاثر رويداً رويداً في العالم وتعمل بشكل متدرج وتسمى الآن بـِ “سرّ التسمية” هكذا فإن نعمة الله تغني العالم بالأساليب المساعِدة والممنهجة والتي من خلالها يتقرب العالم الى الله. بهذه الطريقة فإن لاهوت الكنيسة ينتشر ويتسع، من خلال الليتورجيا والعظات الروحية في كل مكان سواء في الساحات اوالأماكن العامة أوالبيوت.
إذاً إنه لأمر مميز أنه بالرغم من أن وقتنا الحاضر يتصف بالبعد عن الإيمان وبالمسار المضاد للروحانيات إلّا أن الصلاة القلبية في الكنيسة تزداد أهمية وانتشاراً في الأوساط العالمية وفي الكتب، وهي الآن تنتشر أكثر من أي وقت مضى، لذا بقي علينا أن نمارسها كونها سهلة المنال، وهذا ما يطلبه الله منا.
علينا أن نحاول أن نروي عطشنا بماء الحياة كما يقول القديس اسحق السوري، فقط بالاهتمامات النسكية فنحاول أن نشرب من ينابيع القلب البيضاء (ينبوع الخلاص) إن الحاجة إلى هذه الصلاة هي حاجة ملحّة خصوصاً في وقتنا الحاضر.
إن ابتعدنا عن هذه الصلاة كيف سنواجه الشيطان مستقبلاً الذي يحاول أن يُضِل لو أمكن المختارين؟ نستطيع مجابهته فقط عندما نحوي الله فينا أي اسم المسيح مطبوعاً في نفوسنا كأنه ختم لا يُمحى كما قال القديس باييسيوس.
وبما أن اسلوب الوصول للصلاة القلبية في عصر القديس غريغوريوس بلاماس قد انتشر بشكل واسع علينا أن نساعد نحن الآن بذكر اسم الرب بشكل متكرر وبشكل منظم، وأن نحاول أن نردد الصلاة القلبيّة بحسب ما يعطى لنا من وقت لآخر، وبمحاولاتنا المتكررة هذه فإن القديس غريغوريوس بلاماس سيساعدنا ان استدعينا شفاعاته ومساعدته لأن هذه الصلاة كانت مكرّسة لجميع جهادات الرعاة والشعب المسيحي.
لتكن بركة القديس غريغوريوس بلاماس ونعمة الله مع جميع المشتاقين والمحاولين أن يتذوقوا نعمته الروحية الفاعلة في المسيح.