رتبة غسل الأرجل في البطريركية
مايو 2, 2024خدمةُ أناجيلِ الآلام
مايو 3, 2024يشهد الكتاب المقدس بآياته وكذلك التقليد الشريف بشكل واضح على العقيدة الأرثوذكسية حول نزول المسيح إلى الجحيم، ولكن لا الكتاب المقدس يعرّف عقائديًا بدقة وبالتفصيل نزول الفادي إلى عالم الأموات، مستخدمًا تعبيرات عامة ورمزية، كما ولم تقم الكنيسة آنذاك بشرح هذه العقيدة بتفصيل وتدقيق لعدم وجود سبب أو أي خلاف بشأن هذه العقيدة يستدعي الشرح والتوضيح.
من حين لآخر، كان آباء الكنيسة القدامى يشيرون باستفاضة إلى عقيدة النزول إلى الجحيم، لكنهم لم يتركوا لنا أطروحات منهجية خاصة حولها، واكتفوا بتكرار المقاطع ذات الصلة بسيَر القديسين وفي الحياة الليتورجيّة والتقوى الشعبية من المؤمنين. ومع ذلك، على الرغم من عدم وجود تطوير عقائدي محدد لهذا البند من الإيمان، فقد كان جزءًا أساسيًا من الكرازة بالإنجيل، وعِظات الموعوظين، وخصوصاً في نصوص الليتورجيات، وقد تم تضمينه في رموز المعمودية القديمة واعترافات جميع المسيحيين وقد اختبروه بشدة في العبادة الإلهية. وهكذا علّمت الكنيسة الأولى عقيدة نزول الرب إلى الجحيم كجزء لا يتجزأ من الإيمان المسيحي خلال القرون الثلاثة الأولى، وخلال القرن الرابع أدرجته في الرمز الرسولي. بعد ذلك، أخذت عقيدة نزول المسيح إلى الجحيم مكانًا مركزيًا في لاهوت الكنيسة والعبادة الإلهية، النظرية والممارسة، وفي حياة الكنيسة، وأصبحت من أهم العقائد في المجمع المسكوني الخامس والسادس.
من البديهي أن عقيدة النزول إلى الجحيم ظهرت منذ البداية في العقيدة العظيمة التي تتكلم عن المسيح، والتي تحتل مركز ومحور الحياة المسيحية. لهذا السبب، حاربت الكنيسة القديمة كل الهرطقات ذات الصلة وصاغت هذه العقيدة بالمصطلحات العقائدية للمجامع المسكونية الأربعة ، الثالث في أفسس عام 431 ، والرابع في خلقيدونية عام 451 ، والخامس في القسطنطينية عام 553 والسادس مرة أخرى في القسطنطينية في 680-681. لقد تعامل مع هذه المجامع آباء عظام من القرن الرابع إلى القرن السابع لإظهار العقيدة المسيحية الصحيحة، حيث استمرت النقاشات والخلافات حول عقيدة نزول المسيح إلى الجحيم نظرًا للأهمية العظمى لهذه العقيدة التي تشكِّل المحور الأساسي لجميع العقائد، ودخلت في كتابات الليتورجيات، والتي أصبحت بالتالي متمحورة حول المسيح. إنها العقيدة الكريستولوجية، سر التجسُّد الإلهي لابن الله والذي يهدف إلى فداء الجنس البشري. وحَّد المسيح (الله الكلمة) في أقنومه الإلهي طبيعتين كاملتين، إلهية وإنسانية تعودان إلى شخص واحد وهو شخص (الله الابن) وكان الاتحاد بدون انصهار أو اندماج وغير قابل للتجزئة أو الانفصال، كما هو موضح في المجمع المسكوني الرابع ، مع حفظ كل طبيعة لخصائصها وقدراتها وإرادتها.
إن عقيدة نزول المسيح إلى الجحيم مدرجة في العقيدة (الكريستولوجية)، والتي يمكن تلخيصها بإيجاز على النحو التالي:
نزلت نفس المخلص ، خلال الفترة من لحظة موته على الصليب وحتى قيامته، إلى الجحيم وكانت نفسه متحدة بألوهيته، بينما كان جسده المؤلَّه بالكامل في القبر غير قابل للفساد، وبقي متّحداً بألوهية المسيح. أي أن الإله الإنسان انحدر إلى الجحيم بحريته وبسلطته الملكيّة الخلاصية وبقدرته الكلّي اقتدارها بشكل مُبهِر وبطريقة انتصارية وحلّ سلطة الموت ساحقاً امخاله ومبشراً بالفداء جميع الساكنين في ظلمة وظلال الموت. ان جميع آباء الكنيسة القديسين وكتّاب الترانيم أكّدوا أن المسيح انحدر إلى الجحيم بمحض إرادته وحريته وطوعه، ومن هذا المنطلق كان الآباء القديسون يرون بالمسيح المنتصر والمحرر لنفوس البشر، وعلى هذا الأساس كانوا يفسّرون جميع المقاطع والآيات الكتابية ذات الصلة، مثل:
(المزمور 106 :16) “لأَنَّهُ كَسَّرَ مَصَارِيعَ نُحَاسٍ، وَقَطَّعَ عَوَارِضَ حَدِيدٍ.”
والنبي هوشع(هو 13: 14) “«مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ تَخْتَفِي النَّدَامَةُ عَنْ عَيْنَيَّ».”.
إذاً في الهاوية قد صارت بشارة الفادي للأموات والتي هدفها هو إتمام العمل الخلاصي للبشرية وفداؤها من الجحيم، للقابلين لهذا النور التبشيري. ونتيجة هذا العمل الخلاصي هو خلاص الجدّين الأولين وجميع القديسين والأبرار في العهد القديم. كثير من اللاهوتيين والآباء القديسين تكلموا عن هذا العمل الخلاصي في أنه شمل جميع الراقدين الذين عاشوا حياتهم الأرضية ببرٍّ وطهارة وعدل، مؤمنين بخلاصهم الذي تم من خلال الرب، وتقبّلوا هذا العمل الخلاصي الذي قُدِّم إليهم، أما الذين لم يعيشوا حياة البر لم يتقبلوا هذا العمل الخلاصي.
إليكم بعض آيات الكتاب المقدس حول هذا النزول إلى الجحيم:
أ) (مزمور 15: 9 – 10)” لِذلِكَ فَرِحَ قَلْبِي، وَابْتَهَجَتْ رُوحِي. جَسَدِي أَيْضًا يَسْكُنُ مُطْمَئِنًّا. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَادًا”.
ب) وقد أشار الرسول بطرس إلى مقطع المزمور أعلاه ، قائلاً لليهود في يوم الخمسين: “سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَادًا.” (أع 2: 31).
ج) وفي (بطرس الأولى 3: 18 – 19) “فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ، مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيياً فِي الرُّوحِ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْن إِذْ عَصَتْ قَدِيمًا “.
د) في (بطرس 4: 6) “فَإِنَّهُ لأَجْلِ هذَا بُشِّرَ الْمَوْتى أَيْضًا، لِكَيْ يُدَانُوا حَسَبَ النَّاسِ بِالْجَسَدِ، وَلكِنْ لِيَحْيَوْا حَسَبَ اللهِ بِالرُّوحِ.”.
كذلك يشهد التقليد الشريف على عقيدة نزول المسيح إلى الجحيم من قِبل الآباء القديسين والشهداء والكتّاب المسيحيين الأوائل مثل: إغناطيوس الأنطاكي ، ميليتون من سارذيون ، هرماس ، يوستيوس ، إيرينييوس، ترتليانوس ، هيبوليتوس ، قليمس الإسكندري ، أوريجانوس ، أثناسيوس الكبير ، افسابيوس ، كيرليوس الأورشليمي، غريغوريوس أسقف قيصرة الجديدة، كبريانوس من قرطاجة، لاكتانتيوس ، ميثوديوس الأوليمبي، والآباء العظماء في القرون التالية. قدم القديس يوحنا الدمشقي تلخيصًا حقيقيًا للتعليم عن النزول إلى الجحيم قائلاً: “انحدرت نفسه المتألهة إلى الجحيم ،لأنه كما أشرق شمس العدل على الأرض ، كذلك أشرق على أولئك الذين كانوا تحت الثرى في الظلمة وظلال الموت كي ينيرهم بنوره ، وكما أنه أعطى الفرح والسلام والتحرُّر للأسرى والنور للعمي على الأرض، وأصبح علّة خلاصٍ أبدي لجميع الذين آمنوا به، وهو الذي اعطى الويلات لغير المؤمنين كذلك أيضًا لأولئك الذين كانوا في الجحيم، فإنه تخضع له السماويات والأرضيات والذين تحت الثرى، وبالتالي كما حرّر جميع المقيدين قديماً في نفس اللحظة قام على الفور من بين الأموات فاتحاً لنا طريق القيامة ” وهذه العقيدة رددها جميع الآباء القديسين حتى يومنا الحاضر.
تم تضمين عقيدة النزول إلى الجحيم في الاعترافات الإيمانية من قبل المجامع الثلاثة في نيسا عام 359 ، في القسطنطينية عام 360 ، وفي سيرميوم عام 369. وبعد ذلك دخلت لاحقًا في الاعتراف الإيماني لأثناسيوس الكبير، وأصبحت عقيدة النزول إلى الجحيم معلنة عقائديًا من قبل المجمع الخامس (553)، وحرم أولئك الذين لم يقبلوا أن يعترفوا أن “كلمة الله، بعد أن تجسّد وأخذ جسداً بنفس عاقلة ونوس، انحدر إلى الجحيم وهو نفسه صعد إلى السماء”، وفي المجمع المسكوني السابع (787) الذي أعلن:” نعترف به (المسيح) أنه حطّم الجحيم وحرّر المأسورين فيه منذ القدم”. وفي وقائع المجمع المسكوني الأول (325) قال القديس مكاريوس أسقف أورشليم المبارك: “نذهب بعد الموت إلى الجحيم، والمسيح أيضًا قَبِلَ هذا وانحدر إليه طوعاً؛ لم يذهب كما نفعل نحن، لكنه انحدر إليه ليس كمجبر على ذلك، بل كمن له سلطان على الموت، وكونه انحدر برضاه وحده، إلا أنه صعد مع كثيرين”. وهكذا بإيجاز، نذكر أن الكنيسة، مع المجامع، والاعترافات بالإيمان وكتابات الآباء اللاهوتيين، علّمت دائمًا أن الرب “انحدر أيضًا إلى الجحيم وحرر نفوس المأسورين فيه منذ القدم من الروابط الأبدية”.
ويذكر القديس باسيليوس الكبير هذه العقيدة في قدّاسه في الإفشين الذي يقال بعد “قدوس قدوس قدوس” .. “انحدر بالصليب إلى الجحيم ليملأ الكل منه، فحلّ أوجاع الموت وقام في اليوم الثالث”. وأيضاً في الترتيلة: “أنت هي الفائقة على كل البركات يا والدة الإله العذراء، لأن الجحيم قد سبي بواسطة المتجسد منك وآدم دعي ثانية وحواء أُعتِقَت، والموت أُميت ونحن قد أحيينا..”
من هنا نرى أن هذه العقيدة كانت من صُلب الليتورجيات وحياة الكنيسة. ومن إفشين آخر في إحناء الرُكَب يوم العنصرة يقول: “كون المسيح قد انحدر إلى الجحيم وكونه قد حطّم قيوده، فإنه أرى طريق الخلاص للموجودين فيه”.
ويقال أيضًا في استقسامات طرد الأرواح للقديس باسيليوس والقديس يوحنا الذهبي الفم: ” أيها الشيطان، لينهرك الرب الذي انحدر إلى الجحيم وحطّم أمخاله وحرّر جميع المأسورين فيه، ودعاهم إليه». وفي تعليم الموعوظين للقديس يوحنا الذهبي الفم في نهاية قداس عيد الفصح نسمع: “لقد سبى الجحيم لما انحدر إليها” وفي نهاية خدمة الذبيحة لقداس يوحنا الذهبي الفم: “لقد كنت في القبر بالجسد وفي الجحيم بالنفس كإله وفي الفردوس مع اللص وعلى العرش مع الآب والروح أيها المسيح مالئاً الكل يا من يمتنع وصفه”. والطروبارية بعد الذوكسولوجية: “عندما قمت من القبر وحطّمت عقال الجحيم، وأبطلت قضاء الموت يا رب، وخلَّصت الجميع من فخاخ العدو. “.
وهنا يجب أن نشير إلى أنه وبالإشارة إلى الليتورجيا الأرثوذكسية لعقيدة النزول إلى الجحيم فإن لها أهمية خاصة، لأنها تعلم المؤمنين بشكل شبه يومي، وعلى طريقتها الخاصة، العقائد المسيحية الرئيسة، وهي مصدر للإيمان العقائدي الأرثوذكسي وتعبِّر عن إيمان ورأي الكنيسة الأرثوذكسية وتحمل عقيدة آبائها ومعلميها العظام، وتشكِّل أساس عملية الخلاص للبشرية جمعاء وهي بالتالي حياة الكنيسة.
من بين العديد من الطروباريات التي تشير إلى نزول المسيح الى الجحيم وخصوصاً طروباريات القيامة في الأحد: “عندما انحدرت إلى الموت، أيها الحياة الذي لا يموت، حينئذ أمتَّ الجحيم ببرق لاهوتك، وعندما أقمت الأموات الذين تحت الثرى صرخ نحوك جميع القوات السماويين: أيها المسيح الإله معطي الحياة المجد لك”.
زمن النزول
عند تحليل محتوى هذه الطروباريات، يجب أن نشير بإيجاز إلى وقت النزول، وإلى مكانه، وإلى العمل الخلاصي للفادي في الجحيم.
فيما يتعلق بوقت النزول إلى الجحيم، نجد أن نفس المسيح المتأّلهة انحدرت إلى الجحيم فور نطقها على الصليب “كل شيء قد تم” ، عندما انفصلت عن جسده الطاهر، ومكثت هناك لمدة ثلاثة أيام لحين القيامة، وخلال ذلك الوقت كان الجسم الإلهي بلا نفس وغير قابل للفساد في القبر، أي من ليلة الجمعة حتى صباح الأحد، أنظر(متى12: 40، أعمال2: 31، و13:30، مزمور 15:10 لوقا23: 43، يوحنا 20 :17 ، 1 بطرس 3: 18 ، 19 .. إلخ). لهذا السبب تم تحديد الاحتفال الرسمي بالنزول في يوم السبت المقدس من قبل الكنيسة الأرثوذكسية. ونقرأ في السينكسار ليوم السبت العظيم: “في يوم السبت العظيم المقدس نعيّد لدفن الجسم الإلهي وانحدار ربنا ومخلصنا يسوع المسيح إلى الجحيم، الذي به أعاد جنسنا من الفساد، ونقله إلى الحياة الأبدية”.
بالخلاصة، نكرر أن الله-الإنسان عندما انحدر إلى الجحيم بنفسه المتّحدة بلاهوته، بينما في نفس الوقت كانت طبيعته الإلهية مع الجسد في القبر، حلّ سلطات الموت في الجحيم وبالتالي اعطانا بشرى الفرح للنفوس، وبجسده غير القابل للفناء أباد الفناء، معطياً إياه عدم الفساد والقيامة، وعندما اتّحد الجسم بالنفس مرّة أخرى بالقيامة تنبأ مسبقًا بعدم الفساد والقيامة معلناً لنا لمّ شمْل الروح بالجسد، القيامة العامة للبشرية جمعاء نفساً وجسداً، أي إعادة جبلة البشرية من جديد. كما يرتَّل باللحن الرابع: “بارتفاعك يارب على الصليب محوت لعنتنا الجدِّية، وبانحدارك إلى الجحيم، أعتقت المقيدين منذ الدهر مانحاً الجنس البشري عدم البلى فنمجِّد بالتسبيح قيامتك المحيية الخلاصية”.
بالإشارة الموجزة إلى تعاليم الكنيسة حول نزول المسيح إلى الجحيم، ثبت أنه ، مثل جميع العقائد الأرثوذكسية الأخرى، اتبع هذا أيضًا نفس عملية التدرُّج في تثبيت العقيدة من الليتورجيا الكنسية ومن تعاليم الكتاب المقدس، والتقليد الرسولي والحياة الكنسية للمسيحيين القدامى، وخاصة في القداس الإلهي، حتى ارتقت به المجامع المسكونية إلى عقيدة إيمان.
هذه العقيدة متضمنة:
أولاً: وقبل كل شيء أن الإله الإنسان قد انحدر إلى الجحيم طوعاً وباختياره وبسلطته وقدرته الإلهية، وكان وحيداً حرّاً بين الأموات، والتي يذكرها المزمور (88: 4 – 5) حُسِبْتُ مِثْلَ الْمُنْحَدِرِينَ إِلَى الْجُبِّ. صِرْتُ كَرَجُل حرٍّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ مِثْلُ الْقَتْلَى الْمُضْطَجِعِينَ فِي الْقَبْرِ، الَّذِينَ لاَ تَذْكُرُهُمْ بَعْدُ، وَهُمْ مِنْ يَدِكَ انْقَطَعُوا”. كمبشِّر بالخلاص والحرية للأموات الذين آمنوا في القديم.
ثانياً: وكما أنه بشَّر بين البشر حين كان بجسده على الأرض عن الخلاص والفرح، كذلك أيضاً بشّرت نفسه الإنسانية نفوس القاطنين بالجحيم، فنرى أن الجسد بشَّر الجسد وبالمقابل في الجحيم النفس بشّرت النفوس.
ثالثاً: ان مكوثه الثلاثي الأيام في الجحيم كان أكثر من كافٍ كي يكمل رسالته الخلاصية، لأن النفوس التي لا جسم لها أقامها المسيح في لحظة واحدة غير خاضعة للزمن، وبما أن النفوس غير خاضعة لمكان أو زمان فإنها خلُصت بنفس اللحظة التي انحدر بها المسيح إلى الجحيم، هكذا كان فعل نور المسيح في النفوس الموجودة في الجحيم.
مكان الجحيم:
أما بالنسبة لمكان الجحيم الذي انحدر إليه الرب يسوع المسيح لم يشرحه الكتاب المقدَّس بالتدقيق، ولكن الكتابات الكنسية تتكلّم عن “تحت الثرى” وهذا ما يقوله بولس الرسول في أفسس “الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلًا حَسَبَ دَهْرِ هذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ،” (أف 2: 2)، و “فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ.” (أف 6: 12). وفي رؤيا يوحنا “وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ وَتَحْتَ الأَرْضِ، وَمَا عَلَى الْبَحْرِ، كُلُّ مَا فِيهَا، سَمِعْتُهَا قَائِلَةً: «لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْخَرُوفِ الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ».” (رؤ 5: 13). وفي رسالة بولس الرسول إلى اهل فيليبي “لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ،” (في 2: 10).
إذاً يُقسَم الكون إلى: السماء والأرض وما تحت الثرى، فإن الجحيم أو تحت الثرى لا يقصّد به المكان المادي وإنما حالة النفوس.
وكان يُقسَم الجحيم إلى قسمين قبل قيامة المسيح: وهذان القسمان يفصل بينهما هوّة عظيمة، أنظر لوقا (16: 22 – 26) “فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضًا وَدُفِنَ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الجَحِيمِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ،
فَنَادَى وَقَالَ: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، ارْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبِعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هذَا اللَّهِيبِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي، اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ. وَفَوْقَ هذَا كُلِّهِ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ ههُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا”.
وفي هذين القسمين نزل الفادي مبشّراً بالإنجيل الخلاصي لجميع النفوس الصالحة التي كان لديها رجاء الخلاص. إذاً، فالقسم الآخر هو قسم (المعذّبين) وأما القسم الأول فقد اخذ ثلاثة تعابير: (أحضان ابراهيم) أو (سجن) انظر (1بطرس 3: 19) “الَّذِي فِيهِ أَيْضًا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ” أو (هاوية) بحسب (رو 10: 7)”«أَوْ: مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ؟» أَيْ لِيُصْعِدَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ” أي في مكان انتظار على رجاء، أما بالنسبة لقسم المعذبين فهم يرقدون في عالم اليأس والعذاب.
أخيرًا ، امتد عمل المخلِّص الفدائي ليشمل الخليقة بأكملها. كل الخليقة ، المرئية وغير المرئية، تبارك، وتسبح، وتمجد الخالق من خلال المشاركة بشكل سرّي في الموت على الصليب وفي نزول المسيح إلى الجحيم. لهذا السبب تدعو الكنيسة الأرثوذكسية الخليقة والعالم أجمع للاحتفال الرسمي بالقيامة المجيدة للمخلص. “لتفرح السماويات ، ولتبتهج الأرضيات…” وليحتفل العالم المرئي وغير المرئي، لأن المسيح قد قام، وهو فرح أبدي. وهكذا بقيامته المجيدة أقام النفوس والأجساد وأعطانا الحياة الأبدية.