طوبى لصانعي السّلام لأنّهم أبناء الله يُدعَوْن
يناير 12, 2025جمعيّةُ النّهضةِ تحتفلُ برأسِ السّنة الشّرقيّة – الفاسيلوبيتا
يناير 13, 2025في قداس هذا العيد نرتل، كما يوم عيد الميلاد، أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم.
يقول الرسول بولس:
“إلْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ” (رومية 13: 14)،
“لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ” (غلاطية 3: 27).
يا لروعة تعبير الرّسول بولس. ماذا يريد أن يقول لنا؟ أنا لبستُ المسيح في المعموديّة، فما عدتُ أنا الظّاهر بل المسيح. فكما أنّ كلّ شخصٍ يُعرف من لباسه، كالكاهن في جبَّتِه والممرّض في لباس التمريض، وعامل النّظافة في بزّته، ورجل الأعمال في بذلته وهكذا…. وأيضًا، وخاصّةً، كالجنديّ (أما تجنَّدتُ بالمعموديّة للمسيح!) الذي يُعرف من لباسه بل وتُعرَف أيضًا رتبتُه، ليؤَدّى له الإكرام الواجب بحسبها. وبحسب رتبته يتصرّف هذا الشّخص الآن، فلا يعود يفتكر بشخصه العتيق (أو السّابق، فقد خلع القديم ولبِس الجديد، كولوسي 3: 9-10)؛ ولا يتصرّف كأنّه ذاك، بل يتصرّف بموجب وظيفته ورتبته الظّاهرة للعيان الآن. يتكلّم بسلطان ويأمر من هم أدنى مرتبةً منه، ويُعطي بزّته الإكرام اللائق لها (أوَليس سفيرًا لقائد الجيش وبالتّالي للوطن ككلّ؟). فإن كنتُ قد لبستُ المسيح، فلا أعود إلى ما كُنتُه فيما مضى، فيما بعد، بل أتصرّف بالإكرام الواجب تجاه ما يمليه عليَّ “لباسي” الجديد المُبَيَّض بدم الحمل، لكي أستحقّ الدّخول معه إلى عشاء عرسه. له المجد.
كان ارتداء ملابس وثنيّة، في العهد القديم، علامة على الرّغبة في عبادة آلهة غريبة والسّير في طرق غريبة. فالقادة الذين كان يجب أن يكونوا أمثلة صالحة للشّعب، كانوا هم أنفسهم يمارسون ممارسات غريبة، وهكذا يعلنون احتقارهم للرّبّ بإهمال وصاياه التي تنهى عن تبنّي الثّقافة الوثنيّة.
فمن أخذ بلباس غريب دلَّ على أنّه أخذ بثقافته وديانته. يحيلنا هذا الكلام إلى الصّلاة التي تقول: “… ولست أمتلك لباسًا للدخول إليه…”.
يتكلّم النّبيّ صِفَنيَه (الرّبّ يصون\يكتم) عن لابس اللّباس الغريب:
“وَيَكُونُ فِي يَوْمِ ذَبِيحَةِ الرَّبِّ أَنِّي أُعَاقِبُ الرُّؤَسَاءَ وَبَنِي الْمَلِكِ وَجَمِيعَ اللاَّبِسِينَ لِبَاسًا غَرِيبًا” (صِفَنيَه 1: 8).
فلنلبس المسيح كما يليق بربّ المجد.
في الأحد الذي يسبق عيد الظهور الإلهي نقرأ من بشارة القديس مرقس في القداس ويقول مطلع المقطع: بدء إنجيل يسوع المسيح.
معنى إنجيل: البشارة السارة، وهي عمل الله الخلاصي بالتجسد والموت والقيامة. إذن، يقول لنا الإنجيلي أن يسوع المسيح بدأ عمله الخلاصي، مبتدئًا بمعموديته (مرقس 1: 1- 11). كيف؟
كذلك نقرأ في النص عن: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، قوِّموا سُبُلَهُ
وهنا نطرح السؤال: هل أشبه المعمدان في كرازته؟ هل ابشر بالمسيح المخلص في برّيّة هذا العالم؟ هل قوّمت قلبي تجاه الرب بدل سلوكي المعوج ومهّدت له طريق الدخول إلى قلوب الناس؟ سؤال برسم كل واحد منا.
أعود إلى السّؤال الذي يطرح نفسه وهو: كيف ابتدأ المسيح عمله الخلاصي، ولماذا اعتمد؟
نسأل، هل احتاج السّيّد لمعموديّة التّوبة والتّطهير التي نادى يوحنّا بها، وهو “الذي لم يَصنَع خَطيئَةً وَلَم يوجَد في فَمِهِ مَكرٌ” (1 بطرس 2: 22)؟
أعمال السّيّد تفوق كلّ عقلٍ وتسمو على كلّ فهمٍ. ويوحنّا نفّذ أمر السّيّد بكلّ احترام وتواضُع، قائلًا له (في قطعة الإيذيومالا من بعد “يا رحيم…”): “أيّها الرّبّ المحجوب إدراكه، المجد لك”.
في صلاة سَحَر عيد الّظهور الإلهيّ، في الأودية الأولى من القوانين (القانون الأوّل للقدّيس كوزما) نقرأ ما يلي:
“إنّ الرّبّ المقتدر في الحروب قد كشف قعر اللّجة واجتذب المختصّين به على اليَبس، وبها غمر المُضادّين، لأنّه قد تمجّد”.
“إنّ الرّبّ ملك الدّهور، قد أعاد في الأردنّ إبداع آدم الفاسد، وسحق رؤوس التّنانين المعشّشة فيها، لأنّه قد تمجّد”.
من هاتين نرى مختَصَر عمل الرّبّ القدير في الأردنّ عند نزوله في المياه.
من بعد الطّوفان في زمن نوح، ولأنّ المياه غمرت كلّ الأرض وما عليها، ساد الاعتقاد بين كلّ الشّعوب، بما فيهم اليهود، بأنّ المياه هي موطن إبليس وكلّ روحٍ شرّير، لأنّهم غرقوا فيها أيضًا (وكما تقول التّرتيلة الأولى: وبها غمر المُضادّين). فكانوا يخافونها، ولربّما لهذا خاف التّلاميذ عندما هاج البّحر (وهم أبناء البّحر) ويسوع نائمٌ في السّفينة! من المُلاحظ هنا أنّ يسوع انتهر الرّيح والبحر وكأنّه يخاطب شخصًا: أصمت، اخرَس (مرقس 4: 39)؛ لأنّ هيجانه كان بسبب الأرواح الشّرّيرة التي فيه والتي كان قد سحقها حين نزل في مياه الأردنّ في معموديته. من هذا المنطلق اجتذب المختصين به من المياه موطن الشر ووضعهم على اليابسة حيث بر الأمان، فقد فرزهم عن تلك القوى الشريرة بسبب ما سيصنعه بها، هذا أولا، ثم عاد وغمر المضادين أي كل قوى الشر بالماء.
كذلك نقرأ في الأودية السادسة من يوم 23 كانون الأول ما يلي: لقد صرتُ إلى أعماق البحر وغرَّقَني عاصف خطايا كثيرة، فارفع من البلى حياتي يا كثير الرحمة بما أنك الإله
لمّا نزل يسوع في مياه النّهر كشف قعر اللّجة، أو الهاوية، أي نزل إلى أدنى مكان فيها، إلى نهايتها وكَشَفها، فما عاد من شئٍ يمكن أن يستتر فيها، انكشف إبليس وأعوانه، وما عاد له من مخبأ. فداس رؤوس التّنانين، إبليس وجماعته، المختبئة فيها، فسحقها وخلّص آدم من عبوديتها. نرى هذا الحدث في بعض الإيقونات حيث إبليس في المياه أو هو مُقَيَّد فيها، وحيث يقف يسوع على ما يشبه اليابسة وسط المياه مع الذين اجتذبهم إليه، وتحتها تظهر رؤوس التّنانين أو الأفاعي؛ الحيّة القديمة.
لهذا تقول الترتيلتان بأنّ الرّبّ القدير في الحروب، وهو المنتصر وحده، أبدًا، قد أعاد إبداع آدم الفاسد، جدّده بالمعموديّة، كما قد سحق عزّة الخطيئة أي إبليس. هذا ما نقرأه أيضًا في كاثسما باللّحن الرّابع من بعد البوليئيليون (وقبل القوانين):
“أيّها المسيح إلهنا، لقد قدّست مجاري الأردنّ وسَحَقْتَ عِزَّةَ الخطيئة، وحَنَيتَ ذاتك ليد السّابق، وخلَّصت البشر من الضّلالة، فلذلك نبتهل إليك، فخلِّص عالمك”.
كذلك من ينتبه لقراءة أفاشين تقديس المياه يسمع ذات الأقوال وأفعال يسوع المسيح في المعمودية،.
فالمعموديّة ابتداء الخلاص الذي تمّ في ملئه على الصّليب.
هنا، يتهلّل الآب مشيرًأ إلى ابتداءِ عمل ابنه الخلاصي قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. أنظروا ما فعل ابني من عملٍ عظيم _ كما يفتخر أي أبٍ بعملٍ عظيمٍ قام به ابنه، هذا تشبيه بشري لتقريب المعنى. وهذه ليست المرة الأولى التي يسر بها الآب بعمل ابنه، ففي عملية التجسد نقرأ في ليتورجيتنا عن ابتهاج الآب بعمل ابنه، فنرتل:
الأب سُرَّ مرتضيًا (لأن) الكلمة صار جسدًا …. والملائكة يسبحون قائلين ….
كذلك نقرأ في أبوستيخن مساء 24 كانون الأول: يا سماء اسمعي ….. وذلك بمسرة الآب الذي ولده وبمؤازرة الروح القدس
وفي الساعات الملوكية للعيد نقرأ في ذوكصا الساعة التاسعة وقبل الختم: إن صافات الملائكة القديسين ورؤساء الملائكة وسائر القوات السماوية يسبحونك ويقولون …..
فالتجسد والظهور الإلهي سبّبا الفرح في السموات كما على الأرض.
بالمناسبة، كلمة معموديّة (باليونانية babtismo) معناها: نزل في الماء حتّى اختفى، أي نزل كلّه في الماء. الكلمة العربيّة التي تفيد المعنى ذاته هي: اصطبغ. ونستعملها عندما نقول عن يوحنّا: “الصّابغ ربّنا يسوع المسيح….”، التي نكررها في إفشين تقديس المياه. لماذا الصّبغة؟ لأنّه كما أنّ النّسيج المراد صبغه يُغطَّس بكامله في محلول الصّباغ حتّى يأخذ اللّون المنشود وبالتّساوي في كلّ أجزائه، وينفذ المحلول إلى أعماق كلّ خيط فيه، هكذا تفعل المعموديّة. لهذا تغطِّس الكنيسة الروميّة الأرثوذكسيّة المعتمد بكامله في جرن المعموديّة، فتصبغه (وتلبسه) بالمسيح.
ونأتي إلى سؤال أخير، لماذا نقدس المياه، في عيد الظهور الإلهي أم للمعمودية. وما أهمية هذا التقديس؟
أحب أن ألفت النظر أنه في ممارساتنا الليتورجية في الكنيسة الروميّة الأرثوذكسية، لا نأتي على ذكر حدث العيد في صيغة الماضي وكأنه شئ حدث في التاريخ ونحن نتذكره اليوم. كل عيد هو حدثٌ مستمرٌ وفاعلٌ على مدى التاريخ البشري. وفي ليتورجياتنا الرومية نقول: اليوم يولد من البتول …، اليوم علّق على خشبة ….، ومثلها العديد. وفي أحد أفاشين تقديس المياه في عيد الظهور الإلهي نردد عبارة “اليوم، حصل كذا وكذا” 22 مرة. فالحدث قائم في التاريخ نستعيده في ملئه كلما استدعينا الروح القدس، كما في كل ليتورجيّا إلهية، حيث بنعمة وحلول الروح القدس يتحول الخبز والخمر إلى جسد ودم المخلص.
بتقديسنا للمياه، نعيدها إلى حالتها قبل السقوط، كما كانت في الفردوس، مياهًا محييةً نقية غير خاضعة لمفاعيل السقوط اللاحق. لذلك، وإن تركنا هذه المياه زمنًا طويلا في أيّ مستوعب لا يتغير لونها ولا طعمها ولا تنمو فيها الطحالب ولا الميكروبات. فنستعملها للتقديس والشفاء. وسكب قليلٍ منها في مستوعب مياه كبير يحوّلها لكها إلى مياه مقدسة.
يقول القديس المعاصر الأسقف لوقا مطران سيمفيروبول: أنصحكم كطبيب أن تشربوا يوميًا من المياه المقدسة لشفاء أمراضكم.
الأب الياس بركات
عيد الظهور الإلهي
2025
معظم هذه المقالة مأخوذ من كتابي “هلك شعبي جهالة”