مثل الابن الضال
ديسمبر 29, 2023القديس غريغوريوس بلاماس معلم عظيم للصلاة القلبية
ديسمبر 29, 2023إن قيامة المسيح هي أعظم حدث في التاريخ، لأنها تشكّل العمل الأساسي للمسيح على الأرض، ألا وهو الانتصار على الشيطان والموت.
صار المسيح إنسانًا، كي يحرِّر الإنسان المخلوق بالطبيعة ليكون أبدياً، ليحرره من أسوأ عدو له، ألا وهو الموت. هذا الإنسان الذي بسقوطه الطوعي، جعله الشيطان ينحدر من إنسانٍ يحيا الحياة بحالته الطبيعية إلى إنسان يحيا بحالة دون الطبيعي، والنتيجة هي أن الجحيم أصبح مصير جميع البشر كما يقول أيوب الصديق: “لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ إِلَى الْمَوْتِ تُعِيدُنِي، وَإِلَى بَيْتِ مِيعَادِ كُلِّ حَيٍّ” (أي 30: 23). بيت ميعاد تعني “بيت الأموات”.
فماذا عن موت المسيح؟
الإله الإنسان قد “داس الموت بالموت”. نعم، مات المسيح طواعية، لكن موته أصبح أساس وعلّة إماتة الموت، لأن الموت (الجحيم) فقد القوة التي كان لديه وأصبح الآن عاجزاً أمام المخلِّص، وكما يقول الرسول بولس “عَالِمِينَ أَنَّ الْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يَمُوتُ أَيْضًا. لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ بَعْدُ.” (رو 6: 9).
هذا يعني أن يسوع المسيح قد حقق التدبير الإلهي لله الآب، برضاه، من أجل خلاص الطبيعة الإنسانية، وتجسّد متنازلاً وصار إنسانًا حقيقيًا ، لكنه لم يكُفَّ عن كونه إلهاً كاملاً.
وهكذا، وصل إلى حد التضحية بنفسه ليقدِّم ذاته ذبيحة من أجل خلاصنا الأبدي، كأوَّل حَمَلِ في عيد الفصح الجديد، لمواجهة الشيطان الذي كان مسيطراً في العهد القديم، فحلَّ مملكة الجحيم، ومن خلال قيامته، سحَقَ سلاح الشيطان الرهيب الذي هو الموت، “الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ، الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا.” (كو 1: 13-14).
بقيامته الباهرة كمخلِّص وفادٍ للعالم، صنع بداية جديدة للطبيعة البشرية التي ابتعدت بسبب انفصالها عن أبيها وخالقها، فضمّها إلى جسده الشخصي أي الى الكنيسة، حيث لم يعد للشيطان قوة الموت الذي لا تُقهَر، بل صار مهزوماً. هذا ما صنعه لجميع المؤمنين، لأننا في الكنيسة نرتل في فترة القيامة: “المسيح قام من بين الأموات، وداس الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور”.
إن الشعب المؤمن بالله وعلى أساس تقاليده يركتز في حياته وإيمانه ورجائه وكمالاته على قيامة المسيح “وَلكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ. فَإِنَّهُ إِذِ الْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ. لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ.” (1 كو 15: 20-22).
إن حياتنا كلها كمسيحيين تتمحور حول القيامة، ولادتنا وطريقة حياتنا وعبادتنا لله وحتى موتنا دائماً تتجه نحو المحور الرئيس وهو الرب يسوع المسيح القائم وإيماننا بقيامتنا الشخصية في المسيح.
ومع ذلك، على الرغم من أن انتصار المسيح على الموت يوهَب لجميع الناس، إلا أنه لا ينتقل بطريقة سِحرية وإجبارية إلى الجميع، وإنما فقط لأولئك الذين يريدون، طواعية، أن يكونوا أعضاء فاعلين في جسد المسيح، في الكنيسة الحيّة، وهم يقتدون باستمرار بحياة المسيح الفاضلة والمقدّسة والتي تؤدي دائمًا عبر الصليب إلى فرح القيامة.
الصليب يخيف ويُرهِب الشيطان عدو الخير لأنه، من خلال صلب المسيح وقيامته، لم تَعُد قوة الشيطان غير ممكن قهرها. الإنسان المؤمن والمخلَّص كونه صار عضواً في جسد المنتصر على الموت، المسيح القائم من بين الأموات، يتلقى قوة النعمة التي تقدمها له الكنيسة ليصير مستحقاً للجهاد ضد الشيطان من خلال الصلب والتضحية، ومن خلال الفضائل التي يهبها له المسيح وهكذا ينتصر.
يعتبر بولس الرسول أن قيامة المسيح هي محور حياة الكنيسة وإيمانها، لأنه يعتبرها الحدث الأهم والأساسي في الحياة المسيحية، التي بدونها يكون الإيمان باطلاً وخاليًا وعديم الفائدة: “وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ،” (1 كو 15: 14).
كانت العظة الأولى لرسل المسيح، التي شكلت أساس الحياة الجديدة للمسيحيين، قائمة على حقيقة قيامة المسيح.
صلب المسيح ومات، لكنه لم يبق في القبر، كباقي العديد من مؤسسي الأديان الأخرى المختلفة الذين ماتوا جميعاً، فهو الوحيد الذي تخطّى حدود الطبيعة، وهزم الموت وقام، وهكذا قدّم للبشرية رجاء قيامتها.
الإيمان بالقيامة العامة للبشر يجعل الإنسان يعيش بين بعدين:
(البعد الأول هو العالم الحالي، والبعد الثاني هو العالم الآتي). إن قيامة المسيح، ليس كمعلومة حدثت، بل كتجربة وجودية، تشفي الوجود البشري وتقوّيه روحياً، لأنها تعيد البشرية إلى علاقتها الثابتة مع الخالق وتطعِّمها بلقاح عدم الخوف من الموت، وتعطيها الأمل والرجاء بالقيامة العامة للأموات.
بهذه الطريقة، يتحرّر البشر من معاناة الشعور بالفناء وعدميّة الوجود، الناجم عن الموت بدون إيمان، ويصير لديهم الرجاء بالقيامة وفرح الحصول على الأبدية.
ترشدنا الحياة التعبّدية للكنيسة إلى طريق القيامة، ولكن من خلال الصلب الذي هو الطريق المقدس، الذي اتبعه الفادي نفسه أولاً ويطلب من جميع الناس أن يتبعوها، إذا أرادوا أن يكونوا تحت نعمة الله ويصيروا غالبي الموت بنعمته. “وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي.” (مر 8: 34).
وأيضاً تقول الكنيسة بواسطة لاهوت ليتورجيتها الطروبارية التالية:
“فهلمّوا إذاً معنا يا أخوة لنصحبه بضمائرَ نقية، ونُصلَب معه ونموت من أجله بلذّات العمر، لكيما نعيش معه ونسمعه قائلاً: “سأرفعكم معي إلى أورشليم العلوية، في ملكوت الساموات”.
تتمحور ليتورجية الكنيسة وطقوسها حول صلب المسيح وقيامته، وتعلّمنا بأننا لا نصبح أعضاء من أجل أن نحيا مرتاحين أو من أجل مواصلة كل واحد منا طريقه الفردي في التنقية على هواه، وإنما تعلمنا أن ننخرط في طريق واحد وهو طريق السهرعلى ذواتنا من خلال الصلاة واليقظة الروحية.
إنها تجربة حياتية نتعلم فيها عملياً كيف نعيش الحياة من خلال الأسرار المقدّسة، حياة واحدة بالصلاة والصوم، بتواضع وتوبة واعتراف، حياة محاربة الأفكار والجهاد ضد الأهواء المميتة التي يثيرها فينا الشيطان، من أجل أن نصبح تدريجيًا، بنعمة الله وقوته وبركته، منتصرين وظافرين على الشر والموت، منكرين ذواتنا الخاطئة ومقتدين بالمنتصر الأول، رب الحياة والموت، يسوع المسيح.
ولكن المسيح، لكي ننتصر، يدعونا أن نقدم له، ليس جزءًا، بل حياتنا كلها كما نقول في القداس “وكل حياتنا للمسيح الإله”.
يتحدث القديس يوحنا في سفر الرؤيا عن الموت الثاني، ويقصد به الموت الروحي، الذي هو ذهاب الإنسان بعد يوم الدينونة العامة إلى الجحيم، أما الموت الطبيعي فتعتبره الكنيسة رقاداً (أي نوماً) ولا تعتبره نهاية للوجود، لأن النفس لا تموت، بل تنتظر مجيء المسيح كديّان وتنتظر القيامة العامة التي بها يتحد جسدها بها، وحينها يُدان كشخص كامل نفساً وجسداً، وفقًا لأعماله.
يؤكد الرسول بولس للمسيحيين قيامة الأموات، مشيرًا إلى أنها مرتبطة مباشرة بقيامة المسيح “وَلكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ.” (1 كو 15: 20).
إن المسيح بتجسده وحَّد في أقنومه الإلهي الطبيعة الإلهية بالجسدية، ومن جهة أخرى وحّد الفاسد بعدم الفساد، والمائت مع الخالد.
إنه بموته على الصليب وقيامته انتصر وأمات الموت بما أنه الإله الإنسان، ويمرِّر نصر القيامة هذا إلى كل معمّد متمركز حول المسيح ومتَّحد به.
يعلّم الرسول بولس أيضًا أن كل شخص يدخل جسد المسيح أي في الكنيسة، يطَعَّم بحصن عدم الفساد وعدم الموت الذي للإله الإنسان كونه رئيساً للكنيسة، أنظر (رومية 11: 17-24)، بينما بدون هذا التطعيم يبقى الإنسان غير مخلَّص وغير مَفدي ويظل غير مسترَد في عالم الفساد والموت.
“فَإِنْ كَانَ قَدْ قُطِعَ بَعْضُ الأَغْصَانِ، وَأَنْتَ زَيْتُونَةٌ بَرِّيَّةٌ طُعِّمْتَ فِيهَا، فَصِرْتَ شَرِيكًا فِي أَصْلِ الزَّيْتُونَةِ وَدَسَمِهَا، فَلاَ تَفْتَخِرْ عَلَى الأَغْصَانِ. وَإِنِ افْتَخَرْتَ، فَأَنْتَ لَسْتَ تَحْمِلُ الأَصْلَ، بَلِ الأَصْلُ إِيَّاكَ يَحْمِلُ! فَسَتَقُولُ: «قُطِعَتِ الأَغْصَانُ لأُطَعَّمَ أَنَا!». حَسَنًا! مِنْ أَجْلِ عَدَمِ الإِيمَانِ قُطِعَتْ، وَأَنْتَ بِالإِيمَانِ ثَبَتَّ. لاَ تَسْتَكْبِرْ بَلْ خَفْ! لأَنَّهُ إِنْ كَانَ اللهُ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى الأَغْصَانِ الطَّبِيعِيَّةِ فَلَعَلَّهُ لاَ يُشْفِقُ عَلَيْكَ أَيْضًا! فَهُوَذَا لُطْفُ اللهِ وَصَرَامَتُهُ: أَمَّا الصَّرَامَةُ فَعَلَى الَّذِينَ سَقَطُوا، وَأَمَّا اللُّطْفُ فَلَكَ، إِنْ ثَبَتَّ فِي اللُّطْفِ، وَإِلاَّ فَأَنْتَ أَيْضًا سَتُقْطَعُ. وَهُمْ إِنْ لَمْ يَثْبُتُوا فِي عَدَمِ الإِيمَانِ سَيُطَعَّمُونَ. لأَنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُطَعِّمَهُمْ أَيْضًا. لأَنَّهُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ قُطِعْتَ مِنَ الزَّيْتُونَةِ الْبَرِّيَّةِ حَسَبَ الطَّبِيعَةِ، وَطُعِّمْتَ بِخِلاَفِ الطَّبِيعَةِ فِي زَيْتُونَةٍ جَيِّدَةٍ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يُطَعَّمُ هؤُلاَءِ الَّذِينَ هُمْ حَسَبَ الطَّبِيعَةِ، فِي زَيْتُونَتِهِمِ الْخَاصَّةِ؟” (رو 11: 17-24)
يفسِّر اللاهوت الأرثوذكسي الطريقة التي يمنح بها المسيح بشكل يفوق الطبيعة قدراته الإلهية وغير المخلوقة لطبيعتنا المخلوقة، بحيث يمكنها أيضًا، في المسيح، الانتصار على الموت والفناء.
ظلّت طبيعتا المسيح متحدتين، بشكل لا ينفصل، في شخصه الإلهي الواحد، وبالتالي فإن:
- جسده المقدس، بعد موته ودفنه، استمر في تلقي قدراته الإلهية، وبالتالي كان لهذا تأثير على عدم إفساد جسد الرب، الذي مات طبيعياً كباقي العالم.
- وأما نفسه الإنسانية المقدسة فهي بالرغم من نزولها معه إلى الجحيم إلّا أنها لم تتوقف عن أن تكون “نفس” شخص الرب يسوع المسيح، والتي تتلقى أيضًا قدرات الإلوهة التي اتحدت بها منذ بداية الحبل.
كما قال الأستاذ في اللاهوت العقائدي الأب رومانيذيس: “إن طبيعتي المسيح كل منهما يحتوي الأخرى، ولكن دون اندماجِ او انصهارِ أي منهما في الأخرى، وهذا يعني أن الطبيعتين اتّحدتا لشخص الإله الإنسان الله اللوغوس وكل طبيعة تعطي خصائصها للأخرى، فالطبيعة الإلهية تعمل وتعطي، بينما الطبيعة الإنسانية تتلقى منها القدرات الإلهية. بحسب الاتحاد الأقنومي للطبيعتين فهذا ما يسمّى لاهوتياً بـِ (تبادل الخصائص بين الطبيعتين)، وهذا يعني أن خصائص الطبيعتين تعود إلى شخص الله المتجسد، المسيح.
بالنتيجة يستطيع المؤمن أن ينتصر على الموت، ليس بقدرته الذاتية، ولكن بقدرة الله ونعمته التي تخلِّده وتجعله غير مائت وغير فانٍ.