الأفكار للرئيس ألكسيوس رئيس دير كسينوفوندوس
ديسمبر 29, 2023التفاؤل الأب الشيخ رئيس دير كسينوفوندرس ألكسيوس
ديسمبر 29, 2023“ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً وإنما عدل وقداسة”
هذه كلمات ترتيلة المجد في (الإينوس) من ذكصا الأحد الخامس الصوم
أيها الموقرون من الآباء الأجلاء والأخوة الأحباء، إن كنيسة المسيح المقدسة تحوي التعاليم الصحيحة حول ملكوت السماوات، حيث أننا نتواجد اليوم في الأحد الخامس من الصيام ونقترب من الأسبوع العظيم أسبوع الآلام الذي يأتي به المسيح برغبة شديدة إلى الآلام الخلاصيّة للبشر، قبل ان يأتي المخلِّص إلى فترة الآلام وبعد أن ذاع صيته المبهر بسبب كثرة العجائب التي عملها، قال الرب لتلاميذه “ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت” (متى 18:20) نرى المسيح في هذه الكلمات لا يدعو تلاميذه إلى حياة مريحة ذات مجد وعظمة وإنما إلى حياة جهاديّة، حياة الصليب المليئة بالأتعاب والأوجاع والعذابات.
لكن التلاميذ كانوا منبهرين بعجائبه وبالمكانة التي وصلوا إليها بين الناس من مجدٍ وعظمة، لذلك فكروا بطريقة خاملة وبليدة، فكروا بمجدٍ أرضي، فكروا بأن المسيح يريد أن يؤسِّس منشأة أرضيّة وهي تأسيس المملكة اليهوديّة، لذلك طلبت والدة ابنيّ زبدى لولديها بأن يجلسا واحدٌ عن يمينه والآخر عن يساره في مجده لذلك أجابها الرب “لستما تعلمان ما تطلبان”(متى 22:20)، كون تأسيس الكنيسة في العهد الجديد تسبَّب في إلغاء قيام دولة إسرائيل، وهذا لم يكن من باب الصدفة كون الرب يريد أن يعلِّمنا أن الخلاص للجميع وأنَّه لم يأتِ ليؤسس مملكة أرضيّة بل سماويّة، لذلك قال لبيلاطس إن مملكتي ليست من هذا العالم.
ونرى بولس الرسول يكتب إلى العبرانيين في رسالة القداس لهذا اليوم” وَأَمَّا الْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ، فَبِالْمَسْكَنِ الأَعْظَمِ وَالأَكْمَلِ، غَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ هذِهِ الْخَلِيقَةِ، وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُول، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إلى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيًّا” العبرانيين (9: 11- 12).
من هنا نتعلم أن الموعد هو الصليب والموت. ويشدِّد القديس يوحنّا الذهبي الفم على أن الموعد هو الصليب، إذ نراه يعلّم متعجباً وقائلاً “إن الشيطان بهذا الموعد وبهذا الطُعمٍ قد خُدِعَ” أي بطُعم الصليب، إذ كان الشيطان يظن بأنه سيأسر المسيح لكنَّه بالصليب قد بلع الطُعم، ويضيف أيضاً الذهبي الفم أنه من الممكن أن المسيح قد صنع كثيراً من العجائب من قيامة أموات وشفاء مرضى ولكن كل هذه تعتبر صغيرة أمام العجيبة الكبرى والوعد العظيم ألا وهو الصليب الذي به جذب كل العالم إلى أحضان الكنيسة.
في كثير من الأحيان ننسى نحن المسيحيّون حياة الوعد وهي درب الصليب، لذلك تذكِّرنا الكنيسة باستمرار أن الملكوت ليس أكلأ ولا شُرباً ولكنه عدل وجهاد في القداسة، وهذا ما يعلّمه إيانا كتاب التريودي في ذكصا الأحد الرابع للصوم.
“هلم نعمل في الكرم السرّي صانعين فيه ثمار التوبة، ولا نتعب بالأطعمة والمشارب بل نحكم الفضائل بالصلوات والأصوام فبهذه يرتضي رب العمل ويهبنا الدينار الذي به يفتدي الأنفس من دين الخطيئة بما أنه جزيل الرحمة وحده”
تَعتبر الكنيسة تَعَبَ الصلاة والصوم بأنه راحة، لذلك فإن الصيام لا يعمل في المجهول بل يُظهر الهويَّة المسيحية، قد نخاف من انتماءات كثيرة ولكن عندما ننتمي إلى الكنيسة تختفي كل أسباب الخوف ونشعر بالراحة.
لنعد الآن إلى السؤال التالي: ما هو الملكوت؟
يتكلم بولس الرسول في رسالته (2كور 4:12) عن انخطافه إلى الفردوس قائلاً:” سمعت كلمات لا ينطق بها ولا يصوغ لإنسان أن يتكلم بها” لذلك فإن ملكوت الله ليس ملكوتاً ماديّاً، ولا تستطيع الكلمات الماديَّة البشريَّة وصفه، لأن العقل البشري المحدود لا يستطيع أن يستوعب ملكوت السماوات غير المحدود.
ومن تعاليم الكتاب المقدس والآباء القديسين نتعلم أن ملكوت السماوات هو الله بالذات، لأن الله هو محور هذا الملكوت وهو كمال الصلاح. من أجل ذلك لا يمكن أن يُفهم الصلاح خارج الله، لأن الصلاح الدنيوي أو كل ما يفكِّر به الإنسان عن الصلاح الدنيوي هو خيال ووهم أمام الخيرات الصالحة التي منبعها هو الله، وعلينا أن نعي أن هذه الخيرات هي الله نفسه.
وهذا ما يعلِّمنا إيّاه بولس الرسول في رسالته إلى فيلبي (7:3- 8)
“لكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحًا، فَهذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح”
ويقول القديس غريغوريوس اللاهوتي “إن معرفة الله أو فهمه غير ممكن” لذلك سُرَّ الله بأن يتجسَّد الأقنوم الثاني للثالوث الأقدس الله الابن وهو يسوع المسيح، وبهذا التجسد أصبح لنا علاقة مباشرة مع الله وهذه هي مسرَّة الإرادة الإلهيّة، وهكذا تمجد الابن فينا وأصبحنا وإياه جسداً واحداً.
إن سقوط الجدين الأولين كان سبباً في قطع هذه العلاقة مع الله، ولكن الآن -وبسماح من الله وبتدبيره- صُلِبَ المسيح وحرّرنا من قيود الشيطان وجعلنا شركاء في ملكوته عندما أصبحنا شركاء بجسده ودمه.
نحن نرى ملكوت الله في وجه المسيح والكنيسة التي هي جسده، فلذلك يبدأ الكاهن القداس الإلهي بإعلان الملكوت قائلاً “مباركة هي مملكة الأب والإبن والروح القدس”، وهكذا في القداس الإلهي ندخل هذا الملكوت ونحياه ونتذوَّقه من خلال القداس، وبالتالي فإن الإنسان المسيحي يحيا هذا الملكوت بكيانه وأحاسيسه وبإيمانه، وتكتمل هذه الحياة عندما نأكل جسد الرب ونشرب دمه ونصبح واحداً معه وهكذا يصبح الله الكل في الكل (آمين)