لقاء في جامعةِ البلقاء التّطبيقيّة
يناير 7, 2024الكهنوت الملوكي والكهنوت الخاص
يناير 11, 2024هو واحد من الأسرار الكنسية التي تتيح لجميع الناس أن يلتقوا الله كمخلِّص في كل مراحل حياتهم، وتعينهم ليحقّقوا في ذواتهم كمال صورة ابن الله الوحيد. فالإنسان الذي يصبح، على سبيل المثال، ابنا لله بالمعمودية يبقى مدعّواً الى أن يتبع السيد ويكون معه في كل لحظات حياته… في طفولته وشيخوخته، في فرحه وحزنه، في عافيته واذا أثقلته الهموم او أرهقته الامراض… في هذا الإطار تمنح الكنيسة سر الزيت المقدس للمؤمنين للدلالة على حضور الله الحي والمحيي مع شعبه المنتظرِ عونَهُ ورحمتَهُ، وهو يختص بكل مرض مهما كان صعبا، ويقام دائما على رجاء الشفاء.
الزَّيت في الكتاب المقدّس
وَرَدَ ذِكرُ الزَّيتِ في الكتابِ المقدَّسِ مَرّاتٍ عديدة، وَهُوَ زَيتُ الزَّيتُون. أمّا استعمالاتُهُ فكانَت كثيرةً، نَذكُرُ مِنها:
إضاءةُ السُّرُج: “وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى قائلاً: كَلِّمْ بَنِي إسرائيلَ أن يَأخُذُوا لِي تَقدِمَةً… ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ… وَزَيتٌ لِلمَنارَةِ…” (خر 6:25). “أمّا الجاهِلاتُ فَأَخَذْنَ مَصابِيحَهُنَّ ولَمْ يَأخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيتًا” (مت 3:25).
السَّكْبُ فَوقَ التَّقدِمة: “إذا قَرَّبَ أحدٌ قُربانَ تقدِمَةٍ لِلرَّبِّ، يَكُونُ قُربانُهُ مِن دَقيقٍ، وَيَسكُبُ عليها زيتًا…” (لا 1:2).
مَسْحُ المُلُوك، مثلاً: مَسْحُ صَموئيلَ لِشاوُل (1صم 1:10)- مَسْحُ صَمُوئيل لِداوُد (1صم 13:16)- مَسْحُ صادُوق الكاهِنِ لِسُلَيمانَ بْنِ داوُد (1مل 39:1)- مَسْحُ النَّبِيّ الّذي أرسَلَهُ أَلِيشَعُ لِياهُو بْنِ يَهُوشافاط (2مل 6:9).
مَسْحُ الكَهَنَةِ وَرُؤَساءِ الكَهَنَة: (خر 1:29-37) (لا 7 و 8).
كثيرة هي الشهادات التي تدل على استخدام هذا السر منذ العصر الرسولي. فالرب يسوع، الذي شفى “جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين…” (متى 4: 24؛ مرقس 1: 34، 3: 10-11)، هو الذي سلّم الى رسله، وتاليا الى كنيسته، السلطان ليطردوا الارواح الشريرة ويشفوا كل مَنْ فيه داء وأخرجوا (اي الرسل) شياطين كثيرة ودهنوا بالزيت مرضى كثيرين فشفوهم” مرقس 6: 13؛ راجع ايضا رسالة يعقوب الجامعة: “أَعَلَى أحدٍ بينكم مشقّات فليصلِّ. أمسرور أحد فليرتّل. أمريض أحد بينكم فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلّوا عليه ويدهنوه بزيتٍ باسم الرب، وصلاة الإيمان تشفي المريض والرب يقيمه وإن كان قد فعل خطيئة تُغفر له” 5: 13-15). ونرى أن استعمال الزيت في الصلاة على المرضى بات أمراً شائعاً، فالكتاب المعروف ب “التقليد الرسولي” (بداية القرن الثالث) يحتوي على نص تقديس الزيت: “ايها الرب إلهنا، انت قدِّس هذا الزيت واغرس فيه موهبة التقديس للذين يوزّعونه والذين يقبلونه. به أشرت أن يُمسح الملوك والكهنة والأنبياء في القديم. هَبْنا نحن ايضا إذ نُمْسَح به صحةَ النفس والجسد”. ويذكر السرَّ آباء كثيرون، منهم: اوريجانس، واوسابيوس اسقف قيصرية، وكيرلس الاسكندري، والقديس يوحنا الذهبي الفم الذي يوصي باستخدام الزيت المقدس في حالات المرض كافة، وبعدم حصره في حالات المرض القصوى اذ يشرف المريض على الموت… فالسر ليس هو سر “المسحة الأخيرة”، كما هو شائع هنا وثمة، وإنما يتقبله من لم يقطع رجاءه بخلاص المسيح. هذه الشهادات -وغيرها- دلالة قاطعة على أن سر الزيت المقدس كان قد انتشر انتشارا واسعا، منذ وقت مبكر، وأنه معروف وممارَس في الكنائس كافة.
ينفي التراث ايَّ تفريقٍ بين الجسد والروح، فالإنسان كائن واحد غير منقسم، ولا توجد تاليا حدود واضحة بين أمراض جسده وأمراض نفسه. ولذلك فإن صلاة تقديس الزيت تمتاز بأنها تقام بآن من اجل شفاء الجسد ومغفرة الخطايا التي هي الشفاء الحقيقي. ففي قوة الصلاة التي تتلى من اجل المريض المسمّى باسمه (لأن سر الزيت، كما هي الأسرار كلها، شخصيّ) وقداسةِ المسحة يدعى الانسان الى أن يعي أن نعمة الروح القدس قادرة أن تخرجه من جبّ الفساد (الخطيئة) وتشفيه من كل ألم او ضعف. غير أن هذا لا يعني أن المؤمن يستطيع أن يستغني عن ممارسة سر التوبة باقتباله مسحة الزيت “فنحن، حسب قول بعض الآباء، ننال بسر المسحة قوة روحية، فتُغفر خطايانا التي نسيناها ولم نتمكن من الاعتراف بها. الا أن أهميتها الاولى تبقى في الصلاة من اجل صحة الجسد. لذلك تربط الكنيسة الارثوذكسية بين هذين السرين (سر الزيت وسر التوبة)، وتحثّ الذين يُقام سر المسحة من أجلهم، على الاعتراف ايضا”
لا بدّ من القول إن الكنيسة الارثوذكسية لا تؤمن بأن سر الزيت المقدس يجلب الصحة للمريض بطريقة آلية او سِحْرية، وذلك انه يُقام “باسم الرب” وقوة “صلاة الايمان”، كما ورد في رسالة يعقوب الرسول، وتاليا، فإن الرب، الذي يسمع ويستجيب بحسب محبته وحكمته الأزلية، هو الذي -من دون أن نستبعد إمكانية الشفاء الجسدي- يعطي الملتمسين عطفَهُ ما يعزّيهم وينفع لخلاصهم (راجع حادثة شفاء المخلع في انجيل مرقس 2: 1-12). غاية سر المسحة هي شفاء المريض، او أَن يكتشف، على الأقل، انه محبوبُ اللهِ والجماعةِ الكنسية المشاركة في الصلاة من اجله. فاذا لم يجد المريض عافيته الجسدية هنا على الارض، تدعوه الخدمة الى أن يطلب الرحمة عن خطاياه ليُنْشِد القيامة في الحياة الأبدية. على العموم لا تحلّ الكنيسة مكان الطب وعلومه، ولكن تعمل ليرى أعضاؤها أن محبة الله تكتنفهم وهي الحياة ذاتها، وترفعهم ليقولوا بثقة مع بولس الرسول: “اني لواثق بانه لا موت ولا حياة… لا حاضر ولا مستقبل… ولا خليقة اخرى أية كانت، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع” (رومية 8: 38-39).
يذكر قانون الخدمة أن إتمام سر الزيت المقدس يجري في الكنيسة وسط الجماعة المخلَّصة (في حال تعذر حضور المريض الى الكنيسة يؤدى السر في البيت)، ويخدمه سبعة كهنة يمثلون الكنيسة الجامعة الرسولية. بيد أن الكنيسة أجازت أن يقيم الخدمة عدد أقل من الكهنة، ولا تمنع أن يتمّها كاهن واحد. يُقرأ في الخدمة سبع رسائل وسبعة أناجيل هي تسبحة شكر لله تُظهر محبته التي تشفي المرضى والخطاة، وتدل على رحمته التي سبغها علينا بيسوع المسيح ربنا. وتتلى ايضا سبعة أفاشين لمباركة الزيت، وفي كل مرة يمسح الكاهن المؤمن بالزيت سبع مرات للدلالة على أن الكنيسة بواسطة هذا السر تعبّر عن حنانها الكامل للمريض. من المفيد أن نذكر أن لفظة “رحمة” في اليونانية هي eleos eleos ولفظة زيت هي elaion elaion، وتفيد elaion ايضا معنى “المسحة”، وهذا يدلنا على أن الزيت -بالنسبة الى تقليد العهد الجديد- اصبح طبيعيا رمزا لرحمة الرب.
تقيم الكنيسة خدمة هذا السر مساء يوم الاربعاء المقدس، غير انها ترجو أن تستعاد ممارسته وأن يتقبله كل مريض في كل وقت. هو سر التعزية الكبرى التي يعطينا إياها الروح القدس لنثبت في الطهر الذي هو فرح المسيح.