أحد حاملات الطيب
ديسمبر 29, 2023أحد المفلوج (المخلَّع)
ديسمبر 29, 2023في مقطع إنجيل يوم الأحد ، يلتقي المسيح بالمرأة السامرية عند بئر يعقوب، وهي تعتقد بأنه يهودياً، وفي حين أن اليهود لا يتكلّمون مع السامريين تجده يتحدث معها، لا بل ويطلب منها ماءً ليشرب. إنها لا تعرف أن مُحاورها ليس يهوديًا عشوائيًا يطلب منها الماء، بل هو المسيَّا، المسيح الذي يقدم “عطايا الله المجانية” و “ماء الحياة”، كما أجابها هو: “وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».” (يو 4: 14).
بدأ الحوار بين المسيح والمرأة السامرية على موضوع الماء، والذي هو بالنسبة للإنسان مصدر قوة وحياة، وهو مُحيي لكل الخليقة. الماء ينَدِّي ويروي وينظف وينقي ويسقي وينمِّي ما يعمله الإنسان. إنه يجلب الفرح والحياة والقوة والبرَكة. وأيضاً حتى مياه الأمطار، عندما تهطل في الأوقات الملائمة هطولاً معتدلاً، فهي لا تسبب أية كوارث بل يكون هطولها مصدر نعمة وبركة.
الماء هو نعمة وبرَكة لا متناهية وهو ثروة وحياة. ومع ذلك، وبغض النظر عن مياه الطبيعة المادية، فهناك أيضًا الماء الروحي، الماء الذي يتحدث عنه المسيح للمرأة السامرية. إنه الماء الحقيقي، هو المَن، هو طعام الصحراء، هو الرمز السرِّي لخبز وخمر القربان المقدس، الذي هو المسيح نفسه.
الماء يرمز إلى تعاليم ربنا وكلامه للبشر، وهذا الكلام مليء بقوة الله وحكمته، إنه يروي ظمأ الإنسان ويقوده عبر الأسرار المقدَسة إلى الخلاص والتقديس. الماء هو العنصر المرئي الذي بواسطته يدخل الإنسان إلى الكنيسة من خلال سر المعمودية، وبهذا السر يعطى الإنسان إمكانية الخلاص. المعمودية هي بداية رجاء الخلود والقيامة لحياة أبدية، وهذا ما يجب أن يهيمن على حياة كل مسيحي. وهذا ما نرتله في يوم الشعانين “أيها المسيح لما دُفِنّا معك بالمعمودية، استحقينا بقيامتك الحياة التي لا تموت، فنصرخ مسبِّحين:”أوصنّا في الأعالي مبارك الآتي باسم الرب””.
المرأة السامرية تلتقي بالمسيح
في لقاء المسيح بالمرأة السامرية وحوارها معه انحدرت القوة المخلِّصة للقدرة الإلهية، والتي أعطت مفعولها مباشرة في روح هذه المرأة، هذه الروح التي كانت قبل تلك اللحظة ميتة داخل جسدها الحي. هذا ما حدث بالضبط أثناء عملية خلق الإنسان، حيث نفخت القدرة الإلهيّة الحياة في الإنسان الطيني الميِّت، وهو آدم، فأعطته الحياة. وهو الآن آدم الجديد (المسيح) يُحيي البشرية من خلال المرأة السامرية، بنفخة جديدة من الحياة، لأنه وجد أنها ميتة روحياً فأحياها.
لأن نسمة الحياة التي سبق ونفخها الله في الإنسان قد ماتت بمعصية آدم الأول، وذلك بسبب أنانيته وتمركزه حول ذاته، مما قتل فيه المحبة التي كانت قد زُرعت فيه بنفخة الله، وبالتالي مات فيه أيضا حب التضحية والعطاء.
إن المسيح من خلال لقائه بالمرأة السامرية، يوجِّه مسار تعاليمه بهذا الأسلوب كي يعطيها امكانية تفحُّص أنانيتها التي تُفسِد صورتها البشرية التي “على صورة الله”، ويطلب منها أن تعطيه شيئًا، في هذه الحالة لشرب الماء من البئر الذي كان يعقوب. أي أنه يدعوها بطريقة ما بأن تخرج من حبّها لذاتها، أي تخرج من ال “أنا” وتقبل الآخر”أنت”.
كان رد المرأة على طلب المسيح يحوي في مضمونه البغض القومي والتركيز على الذات، ولهذا رفضت تقديم أي شيء، حتى هذا الماء المادي، الذي تستخرجه من بئر ليس مُلكاً لها بل هو بئر يعقوب. “.. فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَعْطِنِي لأَشْرَبَ»” (يو 4: 7)، “فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ.” (يو 4: 9).
عندما طلب المسيح من المرأة السامرية أن يشرب من الماء، لم يفعل ذلك لأنه عطشان حقًا ويحتاج إلى هكذا احتياج، شرب الماء، فالمسيح هو الله المتجسّد، وهو إله الأرض كلّها، ولكنه يُظهِر نفسه أمام الناس وكأنه لا حول له ولا قوة، وأنه بحاجة لمن يعطيه الماء المادي لكي يجد فرصة لعمل علاقة بين المحتاج (الإنسان) وغير المحتاج (الله). وها هو يطلب من المرأة السامرية الحصول على الماء، لإعطائها الفرصة لتخرج من حبّها لذاتها وتشعر بالحب تجاه الآخر، بدلاً من شعور الكراهية والتحيّز للجنس أو للقومية، وأن ترى الآخر على أنه إمكانية خلاصها. من خلال مطالبته بشرب الماء، يمنحها المسيح الفرصة لتجربة الحب غير المشروط تجاه الإنسان الآخر، و يعلّم المسيح المرأة السامرية أن كل الناس “على صورة الله” وأن لكل شخص قيمة متساوية أمام الله.
تغيرت حياة المرأة السامرية
استمرار الحوار مع المرأة السامرية قادها إلى العبادة الحقيقية لله. كانت نتيجة حوار يسوع المسيح مع المرأة السامرية سبباً للتغيير في حياتها وحياة زملائها القرويين، إذ منذ تلك اللحظة توقفت عن أن تكون زوجة لخمسة رجال وأصبحت واعظًا ورسولًا ليسوع المسيح. منذ تلك اللحظة بدأت تفهم كلمات الرب الرؤيوية عن حياتها الشخصية، لأنها اعترفت لاحقًا لمواطنيها: “«هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟»” (يو 4: 29).
من ناحية أخرى ، بدأت تفهم معنى كلام المسيح الذي تحدثه معها عن الماء الحي، لذا نجد أن سؤالها التالي كان حول العلاقة بين الله والناس، وهو موضوع عبادة الله بشكل أساسي: “آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ».” (يو 4: 20). فكانت إجابة يسوع المسيح تصبُّ مباشرة في جوهر الموضوع وفي بعده الحقيقي: “قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ.” (يو 4: 21). يضع يسوع المسيح الآن مسألة العبادة الحقيقية لله ناقلاً إياها من التركيز على مكان الصلاة إلى التركيز على مضمونها، أي أنه يجب أن يُعبد الله الآب “بالروح والحق”. هذه العبادة الحقّة لله الحق، هذا هو الهدف الأساسي والمرجو تحقيقه في العبادة، لكن في نفس الوقت بدأت هذه العبادة تطبَّق بالفعل في الحياة الحالية، “وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ.” (يو 4: 23).
إن العبادة الحقيقية لله تتألق في حياة الكنيسة، لأن كل مؤمن يشعر بالحاجة إلى عبادة الله. الرب يسوع المسيح في حواره مع المرأة السامرية يفصل عبادة الله عن المكان ولا يعطي له أية أهمية خاصة، وهذا له دلالته، إذ ان مكان عبادة الله هو الآن جسد الرب القائم من بين الأموات، وهذا واضح أيضًا في الحوار بين يسوع المسيح وتلميذه نثنائيل: “وَقَالَ لَهُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ».” (يو 1: 51)،
أي أن رجاءنا المستقبلي الأخروي المنتظر قد صار بالفعل حقيقة ملموسة، وهي أن يسوع المسيح هو مكان العبادة.
العبادة الحقيقية لله
يكشف المسيح للسامرية، العبادة الحقيقية لله، والتي يجب أن تتم “بالروح والحق” وهي موجودة بالفعل ” تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآن حاضرة” المسيح هو المسيّا المنتظر، مخلِّص العالم وبحضوره تبدأ العبادة الحقَّة لله.
يفسِّر القديس كيرلس الإسكندري عبارة “بالروح والحق” على أنها عبادة الله الثالوث، الآب والابن والروح القدس. الروح هو الروح القدس الذي يحلّ ويسكن الإنسان ويحييه، والحق هو الابن يسوع المسيح الذي تجسَّد وصار بشراً والذي بذبيحته على الصليب وقيامته قاد الجنس البشري إلى الله الآب.
لقد أبطل المسيح المفهوم الوطني للعبادة، وأبطل المكان المحدد لها وجعل عبادة الله جامعة ومسكونية. الله الحق لا يُعبد في سياق وطني ومحلي ضيِّق، إذ تتم عبادة الله الثالوث “بالروح والحق” في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، لم تستطع المرأة السامرية قبول رسالة المسيح الفدائية والمعنى العبادي هذا، طالما عاشت مع الشعور واليقين بأنه كان جاهلاً بحياتها الشخصية، لهذا حوَّل المسيح الحوار إلى معنى آخر ورفعه إلى المعنى العبادي والخلاصي، لذلك “أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا».” (يو 4: 10).
لم تقوَ المرأة السامرية على فهم كلام المسيح وظنَّت أنه إنسان فقط وليس إله، وهذا ما نقرأه في ترتيلة الغروب للمرأة السامرية: “إن الابن وكلمة الآب السماوي له في الأزلية وعدم الابتداء ينبوع العجائب قد أقبل إلى العين فوافت امرأة من السامرة لتستقي ماءَ، فلما أبصرها المخلِّص قال لها أعطني ماءً لأشرب وانطلقي فاستدعي رجلك، فأما تلك فكانت تخاطبه كمثل إنسان وليس كإله فقصدت أن تكتم عنه قائلة: “ليس لي رجلٌ” فأجابها المعلِّم: “لقد قلت صدقاً بأنه لا رجل لك لأنه قد كان لكِ خمسة رجال واما الذي لكِ الآن فليس برجلك، وأما هي فتحيَّرت من هذه الأقوال وحاضرت إلى المدينة وهتفت بالجموع قائلة: “هلم فأبصروا المسيح الذي يمنح العالم الرحمة العظمى””.
يتميز حوار السيد المسيح مع المرأة السامرية بأنه حوار ارتقاء للإنسان، وأنه حوار يولَّد أيضًا لقاء المعرفة الشخصية لكل فرد من أفراد البشر ومعرفة ميزاته الشخصية، خصوصاً نحن الذين نعيش في هذا الزمن المنغلق محتقرين الآخرين ومُزدَرين بهم. فالإنسان في صميم أعماقه يحتاج إلى تقدير من الآخرين ويحتاج إلى قبولهم وحبهم له. ومع ان الحوار بين يسوع المسيح والمرأة السامرية بدأ بما هو مادي، أي الماء حين قال لها:”أعطني لأشرب”، إلا أنه انتهى بعد ذلك بمحادثة ذات محتوى روحي سامٍ، يحوي مفهوم الفداء والخلاص، فأصبح هذا الحوار سببًا لتلك المرأة بأن تؤمن بالمسيح مخلصاً وفادياً.
المرأة السامرية هي القديسة فوتيني والتي تكرمها كنيستنا في يوم الأحد الرابع من عيد الفصح، لقد بشرت القديسة فوتيني، بعد قيامة المسيح، بكلمة الله في إفريقيا وروما، حيث استشهدت أخيرًا هناك، من أجل إيمانها بيسوع المسيح، وهكذا ختمت رسالتها التبشيرية باستشهاد الدم، ولهذا السبب تكرمها الكنيسة كقديسة.