تذكارُ نقلِ رفاتِ القدّيسِ أثناسيوس الكبير
مايو 15, 2024القداس الإلهي من ماركا
مايو 17, 2024أحد حاملات الطيب يخبئ في داخله احتفالاً أعظم آخر، وهو الاحتفال بالبشارة الثانية لمريم العذراء ، الاحتفال ببشارتها أم الخليقة الجديدة، أم أبناء القيامة.
إن قيامة المسيح، كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس، هي قيامة للطبيعة البشرية وهي عودة آدم القديم إلى عدم الفساد والحياة الخالدة. وكما أن أول شخص رأى آدم القديم كان امرأة (حواء)، كذلك أيضاً فإن أول شخص رأى آدم الجديد (المسيح)، بعد قيامته من الأموات التي جددت الطبيعة البشرية، كانت مرة أخرى امرأة.
لكن هذه المرأة لم تكن مريم المجدلية، بل مريم العذراء، كما يمكن استخلاصه من تحليل مقارن ومفصّل لنصوص القيامة في الأناجيل الأربعة، والتي كتبها القديس غريغوريوس بالاماس. ففي ختام إنجيل مرقس نقرأ: “وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِرًا فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلًا لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ.” (مر 16: 9).
لكن الإنجيلي نفسه، الذي ذكر هذا كظهور أول للمسيح، يكتب بعد ذلك بقليل في إنجيله، في نفس المقطع الذي يُقرأ في ليلة الفصح، أن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب (أي مريم العذراء) وسالومي اشتروا العطور وجاءوا إلى القبر “في الصباح الباكر”. (مر 16: 1- 2)” “وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطًا لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. وَبَاكِرًا جِدًّا فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ”.
ومن هنا نجد أن ظهور الرب لمريم المجدلية لم يحدث “في الصباح الباكر جداً”، بل في الصباح فقط. فمن الواضح هنا أن تلك الزيارة تبِعها زيارة ثانية أو ثالثة لقبر المسيح. إذ خلال زيارتها الأولى، التي تمت “في الصباح الباكر” وكان الظلام لا يزال كما يقول يوحنا الإنجيلي، لم تجد سوى “الحجر موضوعًا خارج القبر”فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: «أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!»” (يو 20: 2). وهذا يدل على أن مريم المجدلية في زيارتها الأولى للقبر لم ترَ المسيح القائم. ولأن القبر كان قريباً، كما يشير يوحنا الإنجيلي مرة أخرى، “فَهُنَاكَ وَضَعَا يَسُوعَ لِسَبَبِ اسْتِعْدَادِ الْيَهُودِ، لأَنَّ الْقَبْرَ كَانَ قَرِيبًا.” (يو 19: 42).
علاوة على ذلك، فإن حاملات الطيب كنَّ كُثُر ولم يذهبن إلى القبر مرة واحدة فقط، كما تشهد بذلك نصوص الإنجيل، بل مرتين وثلاث مرات برفقة بعضهما البعض، وليس دائمًا نفس الشيء فيما بينهن، حتى أن المجدلية ذهبت في إحدى المرات بمفردها.
لم يكن هدف الإنجيليين الأربعة الوصف التفصيلي لقيامة المسيح، وإنما إعلان هذه الحقيقة الخلاصية. لأن الأناجيل ليست روايات منهجية فهي لا تشكل سرد الأحداث التاريخية بترتيبها الحدثي الزمني، بل كما أشار الشاهد والمدافع يوستينوس الشهير بإنها “مذكرات” الرسل القديسين، أي أنها ملاحظات الرسل عن حياة المسيح وتعليمه.
وفي هذا المساق، يكتب الإنجيلي يوحنا، في ختام إنجيله، أن هناك أشياء أخرى كثيرة فعلها يسوع، والتي لو كتبت كل واحدة على حدة، لا يمكن حتى لهذا العالم أن يحتوي على الكتب التي يجب كتابتها. “وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ.” (يو 21: 25). وهكذا، نجد أن كل من الإنجيليين الأربعة يكتب عن واحدة أو اثنتين من زيارات حاملات الطيب إلى قبر المسيح ويترك ذِكر باقي الزيارات.
ولكن في نصّ الإنجيلي متى (28: 1 -3) يذكر فيها أن أول زيارة لقبر المسيح كانت تلك التي قامت بها السيدة العذراء مريم والمجدلية، كما وصفها الإنجيلي متى: “وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ. وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ، لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ”. ومن ثم جاءت باقي حاملات الطيب بعد الزلزال ووجدن الحجر قد دُحرِج أي تم إزاحته.
وأما مريم العذراء، التي هي مريم الأخرى، فكانت حاضرة أثناء الزلزال وإخراج الحجر من القبر. ولها وأمام الجميع ظهر الملاك وفتح قبر المسيح ووجَّه إليها رسالة قيامة ابنها. وهذه، بحسب القديس غريغوريوس، هي البشارة الثانية لها بالملاك الذي هو رئيس الملائكة جبرائيل والذي زارها في بشارتها الأولى.
شعرت العذراء مريم “الفائقة الطُّهر والمنعم عليها من الله” بفرح عظيم لما كان يحدث، أما المجدلية فخافت، وكأنها لم تفهم شيئاً من ذلك. فقط لاحظت إفراغ القبر وركضت لتعلن هذه الحقيقة لبطرس والتلميذ الآخر بأنه قد تمَّ سرقة المسيح وأن القبر فارغ: “فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: «أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!»” (يو 20: 2).
إذاً، إن أول من رأى الرب القائم هو: مريم العذراء، وتحدثَتْ معه. لأنه بها، أولاً، ومن خلالها أُعلِنَ لنا كل ما في السماوات وعلى الأرض. وهي وحدها التي أمسكت بقدميه البريئتين، وإن لم يكتبها الإنجيليون بوضوح، لأنهم لم يريدوا أن يقدموها كشاهدة عيان لقيامة ابنها المسيح. ولكنهم ذكروا أن مريم المجدلية قد التقت بالرب أثناء زيارتها التالية للقبر وظنَّته بستانيًا، وعندما فهمته وسارعت لتعبده، قال لها “لا تلمسيني” وأرسلها لتبشِّر التلاميذ: “قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ».” (يو 20: 17).
ختاماً، فإن تحيات الرب القائم من بين الأموات إلى حاملات الطيب ورسله كانت مميّزة، إذ قال لحاملات الطيب: “افرحن”، أما الرسل فقال لهم: “السلام لكم”، وذلك لأن أول ما احتجنه حاملات الطيب، اللواتي عشن واختبرن آلام عذاباته وصلبه بعمق، هو الفرح. وكان أول ما احتاجه الرسل، المضطربين خوفاً من اليهود، هو السلام.
يرتبط السلام ارتباطًا مباشرًا بالفرح. والفرح يفترض السلام. فالفرح والسلام، مع كل الفضائل المسيحية الأخرى، هما ثمرة الروح القدس الواحدة وغير القابلة للتجزئة. إن ما يعذب الإنسان ويدفعه إلى الاضطراب والقلق هو الموت. لذلك، من لم ينتصر على الخوف من الموت، لا يمكن أن يحصل على السلام. السلام الحقيقي ممكن فقط من خلال التخلص من الخوف من الموت. والفرح الحقيقي يفترض التحرر من هذا الخوف.
ويؤكد المسيح أن السلام الذي يقدمه للناس يختلف عن السلام العالمي. إن السلام في العالم محدود وفانٍ. أما سلام المسيح فهو السلام الذي يتحرك “خارج حدود” الانحلال والموت، ولهذا يميِّز المسيح سلامه ويفصله عن سلام العالم بقوله: “«سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ.” (يو 14: 27). كما وأن فرح المسيح ليس كالفرح العالمي أيضاً. إنه ليس فرحاً تقليدياً ومؤقتاً، ولكنه فرح ثابت وأبدي غير قابل للإلغاء. إنه الفرح “الكامل” الذي لا يستطيع أحد أن ينزعه من الإنسان.
إن السلام الحقيقي والفرح الحقيقي يشكلان في الوجهة الأخيرة امتيازات الخليقة الجديدة: “إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا.” (2 كو 5: 17). ولهذا توصف مريم العذراء، التي هي أم الخليقة الجديدة، بأنها “سبب فرح”. ولكن مصدر هذا الفرح هو المسيح نفسه الذي هو “سلامنا”. إن مجيئ المسيح إلى العالم هو تبشير بالفرح والسلام. وقيامته من الأموات هي ختم وتثبيت هذا الفرح الذي لا رجعة فيه، وهذا السلام الذي لا يفنى ولا يتزعزع، اللذين وهبهما الله للإنسان.
الخلاصة:
إن البحث عن الفرح والسلام بعيدًا عن المسيح ومريم العذراء، إنما هو مجهود ضائع لا نفع منه وهو عبث محض. آمين